لبنان بين مساري الحرب والدبلوماسية
يعيش اللبنانيون يومياتهم في معمولات نفسية محمولة على توقعات الأسوأ، يردّدون، وهم يتحدثون إلى أنفسهم عبارة "الله يسترنا". من جهة تزايد عمليات إطلاق النار واحتمالات نشوب حرب على الحدود بين إسرائيل وحزب الله، والمستمرّة منذ هجوم حركة حماس في7 أكتوبر، ومن جهة أخرى، الخوف من تفكّك الدولة، الذي بدأ يوقظ مشروع الفيدرالية ودعوات قديمة تعود إلى مرحلة الحرب الأهلية.
تسمح الأوضاع المتفلتة للمكونات الطائفية بالتصعيد في خطابها، وبإدارة أوضاع ذات قابلية للتجزئة، وتعتبر أطراف عديدة أنها مجبرة عليها، وتعلن رفضها التورّط في صراعات إقليمية حماية لها من سيطرة المكون الشيعي المنخرط في مشروع استراتيجي لتغيير موازين القوى الداخلية بعد تعطيل عمل المؤسّسات الدستورية.
بموازاة الحرب، يتلقّى الجسم اللبناني يومياً وجهة نظر أحادية الجانب للصراع مع المحتل الإسرائيلي، والحديث يدور حول اليوم التالي للحرب، وعمّا إذا كان سيكون مختلفاً، إذا كانت ستمثل فرصة لحزب الله لاستكمال التجريب السياسي، وأن يأخذ ضماناته من الأميركي قبل انتخاب رئيس الجمهورية، ومن نوع التأمين الدولي والإقليمي الذي يتخطى الجانب المحلي، لن يكتب الأخير شيكاً للبنانيين على بياض، وسيتمسك بمرشحه لرئاسة الجمهورية في إطار الحصول على مزيد من المكتسبات قبل الذهاب الى مرشّح آخر.
حالة من الفراغ والملل ومن اللايقين السياسي في غياب مشروع الدولة الذي يضمن الاختلاف والتعدّدية
لن يكون لبنان بعد حرب غزّة كما كان قبلها، ما يتلاقى مع هواجس البطريركية المارونية وتصريحاتها في مستوى غير مسبوق من التصعيد في خطابها السياسي، وهي بصدد الانتقال من ردّات الفعل إلى خطوات استباقية، موجّهة تحذيرات من المفاوضات المتصلة بالحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة في غياب رئيس للجمهورية، ومحاولة تعديل نظام الدولة المدنية وزوال فيها ينتهي كلياً أو جزئياً، والانتقال إلى دولة دينية مذهبية في ظل هيمنة حزب الله المدعوم من إيران بالمال والسلاح. تصريحات يصفها الحزب بأنها "تحريضية غير مسؤولة".
لا مشكلة للبنانيين مع البعد السياسي والإعلامي للحزب. لكن المشكلة مع مستوى ثالث خارج السيطرة من أجهزة أمنية وعسكرية مرتبطة بالحرس الثوري، وأضحت مصدر خوف للبنانيين عديدين. كان المطلوب إدارة ترتيب مرحلة من هذا الصراع مختلفة عن العام 1982 وانقساماته، وعمّا كان عليه المشهد منتصف السبعينيات، أو قبل سنة من اغتيال رفيق الحريري، والثمن الكبير الذي دفعه إلى إنقاذ لبنان والسعي إلى تعزيز موقعه على خريطة المنطقة. وهذه ظروف لا تساهم في الوحدة والرد على التهديد الإسرائيلي، ولا مواجهة كوارث بالجملة. خسائر لبنان (ما زالت العمليات محصورة ) تقارب 1,5 مليار دولار، مرتبطة بالدمار في البنى التحتية والطرقات والمباني السكنية (15%) والأراضي الزراعية وأضرار غير مباشرة 300 مليون دولار نتيجة إقفال المؤسسات وتوقيف الأعمال، وهناك نحو 85 ألف نازح من 46 بلدة وقرية جنوبية.
لا توجد حياة سياسية في لبنان إلا بمعنى تكوين الجماعات مساحات طائفية تزيد نفوذها. حالة من الفراغ والملل ومن اللايقين السياسي في غياب مشروع الدولة الذي يضمن الاختلاف والتعدّدية. يتبين يومياً ضعف السلطات الموجودة بما هي عليه من الخطأ وسوء التوفيق على ما تشتمله سياساتها.
تحوّلت عمليات حزب الله إلى أمر روتيني تقريباً، وما تشهده الحدود مزيج من العوامل السياسية والعسكرية
تطلب القوى اللبنانية من المجتمع الدولي مساعدتها في مجالات عدة. تلتقي وفود كثيرة من هم في الحكم لعلّ وعسى، لكن الحكم معطل، لا حكم إلا بالدولة، وتمضي الأمور من دونها، ولا تأمين تغيير يذكر في أمور مصيرية. وقد تسرّب الملل إلى سفراء الدول والمبعوثين في محاولاتهم إحداث خرق في الملف الرئاسي وترتيب إصلاحات في مجال الحياة العامة.
الجهد الذي يبذله الأميركيون والأوروبيون لعدم حدوث هجوم إسرائيلي على لبنان تحول إلى الحديث عن عدم التعرّض لبيروت والجيش اللبناني وتعزيزه عديداً وعدّة والتعاون مع قوات الأمم المتحدة (يونيفيل)، وعودة العمل بالآلية الثلاثية لتجنب الحوادث المؤلمة. فرنسا لا تملك خطة ولا القدرة على تسويق "توصيفها الحقيقي" من دون دعم أميركي وأوروبي وعربي. لم تقطع الأمل في تحقيق نتيجة عبر اتصالاتٍ أجراها وزير خارجيتها ستيفان سيغورنيه بنظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في الطلب من حزب الله التهدئة. وليس واضحاً استئناف جان إيف لودريان لمهمته (المسلّية). ترتبط عودته بإعادة انطلاق أنشطة الخماسية الإقليمية -الدولية، ومهمة السعي للفصل بين ما يجري في غزّة من حرب والواقع الرئاسي أو الميداني في الجنوب. نجاح هذا الفصل صعب جداً بالنسبة لعمل المجموعة الدولية في "بيت لبناني بمنازل كثيرة".
قد لا يحدُث سيناريو الحرب الكبيرة، ويحرص حزب الله على إبقاء الأمور في حدود التذكير بالميدان المتعلق بغزّة، فيما ترفع إسرائيل من نبرة خطاباتها، وهي تعرف أنها لن تجني فائدة تذكر من إشعال الجبهة الشمالية استناداً إلى تجارب سابقة، ومع حاجتها إلى سحب أكبر عدد من جنود الاحتياط من الخدمة العسكرية استجابة للعبء الهائل الذي يتكبّده الاقتصاد الإسرائيلي (تصنيف موديز). تحولت عمليات حزب الله إلى أمر روتيني تقريباً، وما تشهده الحدود مزيج من العوامل السياسية والعسكرية.
يعتبر حزب الله أن قضية غزّة لن تصل قريباً إلى حلول نهائية، وهو مجبر على الانخراط أكثر ليبقي على وجوده في الميدان بشروط المصلحة الإيرانية
تستخدم إسرائيل جزءاً من تهديداتها للبنان مع جولات وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في المنطقة، ولمنع الرئيس الأميركي جو بايدن من ممارسة ضغط أكبر عليها في عملياتها الإجرامية ضد الفلسطينيين. والخوف من إمكانية توسع الاشتباكات يضع لبنان أمام كارثة في ظل أوضاع مقدرات الدولة الضعيفة جداً في مجال الإغاثة، وفي ظل الأزمة الاقتصادية الكبيرة والتضخم والغلاء، والخشية من تمدّد الحرب مع العجز عن الاستجابة لجميع النازحين وتأمين حاجاتهم الغذائية والصحية. لدى إسرائيل مخطط تدمير القرى الحدودية وتحويلها إلى قرى منكوبة غير قابلة للعيش كما فعلت في القطاع، فتعمد إلى تدمير القطاعات الحيوية من مزارع ودواجن ومواشٍ ومزروعات في القرى. لم تقبل إسرائيل تحويل مستوطناتها إلى مدن أشباح، فتحاول أن تجعل القرى اللبنانية منطقة عازلة من خلال التدمير والتهجير. وتأتي الجهود الدولية والعربية في إنتاج حراك دبلوماسي يؤدّي إلى تقييد حرية إسرائيل، وتقليص خيارات الحرب المتاحة أمامها ما بعد انتهاء القتال الدائر في قطاع غزّة. ولن يشير هذا حكماً إلى أن المواجهة مع الحزب لن تحتدم، نظراً إلى الغموض الذي يحيط بعملية ترميم ترتيبات أمنية في الإقليم وحلول سياسية مؤقتة بأثمان غالية جداً.
مشاركة إيران في الحرب، وبشكل صريح، يمكن أن يصير واقعاً، مع أنها تبدو خائفة جداً من أن تكون خارج أي مشروع شرق أوسطي أمني، فيجري تجاوزها ويعرّض نظامها السياسي للخطر. قد ترى إسرائيل في امتداد الحرب إلى لبنان حاجة جيشها إلى تغيير عملياته، ولا يعني هذا انحسار الحرب في غزّة، فيما يعتبر حزب الله أن قضية غزّة لن تصل قريباً إلى حلول نهائية، وهو مُجبرٌ على الانخراط أكثر ليبقي على وجوده في الميدان بشروط المصلحة الإيرانية، وليس مجاميع عناصر المصلحة الوطنية.