لبنان بلد الرهانات المغلقة
حالة سياسية معقدة جداً. ليس صعباً قراءة ما جرى وما يجري، وفهم الظاهرة اللبنانية ومرتكزاتها الدستورية والسياسية والاجتماعية، واستكشاف الاحتمالات وخطورة الرهانات المغلقة التي يجد اللبنانيون أنفسهم أمامها راهناً. وقد دخل لبنان مع سرعة التطورات الدولية أخيراً، سواء ما يحدث في أوكرانيا أو ربطاً بنتائج مفاوضات مؤتمر فيينا حول الملف النووي الإيراني منعطفاً انتظارياً غاية في الخطورة.
العالم في حروبه الباردة وبنزاعات جيوسياسية ماضوية، أو في حروبه الساخنة في مواجهة الآثار السلبية لجائحة كورونا على اقتصاديات العالم، ويجتهد لتجنب أيٍّ من أشكال الحرب الجديدة من جهة، أو في البحث عن حلول لمشكلات مجتمعاته الداخلية على المستويات، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بما يؤمن مصالح شعوبه في مجالات النمو والاستثمار والاستقرار الداخلي. أما لبنان فهو في حالة انتظارات و"لا شرعية" لا تنتهي فصولاً، من لبنان مؤجّل إلى لبنان آخر، ويُخشى أن يخرج بصفته دولة مستقلة من الخريطة الجغرافية العالمية، وهو يعطي العالم وعوداً كاذبة في الإصلاحين، السياسي والمالي. مسودة حالة سياسية معقدة جداً يصعب تفكيكها في ظل الفوضى السائدة أوضاعاً متناقضة ومتصادمة.
يطلق المسؤولون اللبنانيون "مسيرات" فوضوية في كلّ اتجاه تختلط فيها الأوراق الإقليمية، وتتردّد معها أسباب الحرب والردع، وتزداد معها صورة الانقسامات الداخلية عشية الانتخابات النيابية المفترض أن تشكل حلقة تغيير سياسية بعد الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019. لكن، كأنّ البلد وسياسييه على براعةٍ في إنتاج الأزمات، واحدة تلو الأخرى، إلى درجة الانكشاف الكامل لمؤسساته ولسلطاته العاجزة عن إحداث خرقٍ ما يستعيد فيه اللبنانيون جزءاً من ثقتهم المتلاشية في تحسن الأوضاع، فالانقسامات والنزاعات الداخلية والكيدية السياسية تطاول كلّ العناوين في القضاء والأمن والدبلوماسية والاقتصاد والإدارة . "مرتا مرتا تهتمين بأمور كثيرة والمطلوب واحد...". إنقاذ البلد من جحيم صار أمراً واقعاً وغير مفاجئ نتيجة تراكمات وإخفاقات سياسات لا تقيم الوزن الحقيقي في معالجتها أحوال العامة من اللبنانيين المتروكين لقدرهم الأسود، فالنهب وتردّي الأحوال الاقتصادية والمالية في جميع المجالات. تُضاف إلى هذه المشهدية العبثية والمأساوية سجالاتٌ تطاول كلّ عناصر الدولة السيادية من نوع الانقسامات بشأن مفاهيم مستحدثة في السيادة تقع خارج كل تقاليد قام عليها لبنان بلد "اللامحورية" في علاقاته العربية والدولية.
فقد لبنان "عرّابه" العربي الذي كان من أسباب نهوضه وودائعه المالية عقوداً من السنين منذ خمسينيات القرن الماضي
لبنان إذاً أمام مشهدين: انهيار العملية السياسية الداخلية التي تعترض طموحات أبنائه، لبناء دولة حديثة خارج إطار القيود الطائفية والمذهبية. مشهد خارجي مضطرب، يمكن معه إضافة لبنان إلى مصطلح الأقاليم المنشقّة والجمهوريات الصغيرة والمناطق الانفصالية اليوم، وهو واقع عبرت عنه ممرّات الأزمات منذ العام 2005، ما جعله رهينة إشارات التعطيل وردّات الفعل الإقليمية العنيفة والانتظارات المفتوحة تارّة لنتائج مباحثات فيينا النووية مع إيران، أو طوراً المسارات المتعثّرة في العراق وسورية وحرب اليمن، وأخرى مرهونة بمسارات التطبيع العربي مع الاحتلال الإسرائيلي، في إعلان واضح لموت المبادرة العربية التي أطلقت من بيروت العام 2002، وما لذلك من دلالات على تحجيم دور لبنان المستقبلي ورهاناته السلمية.
لبنان متروكٌ عملياً في عجلة السباق بين دول منطقة الشرق الأوسط لتطبيع أوضاعها الداخلية في الحد الأدنى، إذ فقد لبنان "عرّابه" العربي الذي كان من أسباب نهوضه وودائعه المالية عقوداً من السنين منذ خمسينيات القرن الماضي، والتي نراها تتّجه نحو تركيا ومصر. ودول المنطقة جميعها تغلّب المصالح والسياسات الداخلية ومواجهة مرحلة من عدم الاستقرار. وفي المقابل، يضع لبنان نفسه في قلب الصراع، فيبحث عن سوق أخرى لصناعة فوضى عامة، يطلقها في توقيت سيئ، والتي من شأنها إشهار إعلان فشل سلطة الدولة على أراضيها، وتمدّد هذا الفشل على المناطق الاقتصادية البحرية، وفي المجالات التي تعزّز الأمل بنهوض البلد مستقبلاً من أزمة المديونية العامة إلى دخوله طوراً من الحجاب مجدّداً في ساحةٍ، لطالما كانت تحت مراقبة المجموعة الدولية، ما يقفز بالبلد في المجهول، ومعه مقرّرات حماية المؤسسة القانونية الدولية وقراراتها ذات الصلة ومنها قرار مجلس الأمن 1701.
ليست مصادفة أن تلتقي مجموعة تقارير دولية على أنّ لبنان تحوّل إلى دولة فاشلة، كما أفغانستان وليبيا واليمن وجنوب السودان
تحوّل لبنان الصغير الى نقطة تقاطعاتٍ في التسويات المترابطة، كما في النزاعات المترابطة، وهو بالكاد لا يقوى على حلّ مشكلاته الداخلية العالقة. من الصعب تكهن مستقبل لبنان "كوريدور" الأزمات التي تمضي بوتائر متسارعة، وباتت ملحّةً مراقبة تأثير ما يجري على أماكن يشغلها الروسي في منطقة الشرق الأوسط بعد حربه على أوكرانيا، وتحديداً في سورية، وانعكاس ذلك على لبنان على وقع سيناريوهات، من بينها إما تغييرا نسبيا في موازين القوى تأتي بها انتخابات 15 مايو/ أيار المقبلة، أو سيناريو استدعاء ناظم جديد أو قديم للعلاقات بين الأطراف اللبنانية المتنازعة، ثم مسألة العقوبات الغربية على روسيا تتجاوز فكرة الردع إلى خسائر حرب باردة اقتصادية دولية، تصيب شظاياها المتجاورين أوروبا والشرق الأوسط معاً، وتصيب لبنان المريض أصلاً، والذي يفتقر إلى الإمدادات في مجال القمح والطاقة والغذاء والدواء. كما من الصعب التكهن بنتائج مفاوضات فيينا، ومسألة التوصل إلى اتفاق، وكيف ستتعاطى إيران مع دول المنطقة ومع لبنان، بعد تسجيلها نجاحاً دبلوماسياً إقليمياً ودولياً موثوقاً به؟
الخشية أن يعود لبنان ساحة صراع مجدّداً. ليست مصادفة أن تلتقي مجموعة تقارير دولية على أنّه تحوّل إلى دولة فاشلة، كما أفغانستان وليبيا واليمن وجنوب السودان... ما يجري في الداخل من انتخابات والانتهاء من موضوع الموازنة والمفاوضات مع وفد الصندوق الدولي الذي وصل إلى بيروت، وما يرافقها من ملاحقات وتحقيق جنائي ودعاوى وسلة ضريبية بامتياز، لا تعدو كونها تفاصيل صغيرة في صحن ناتج قومي مفقود. ما يجري لعب سياسي خارج الصحن، لا سيما أنّ المقرّرين هم الأشخاص أنفسهم المسؤولون مباشرة أو غير مباشرة عن السياسات الخاطئة وإفلاس البلاد. والمفاوضات مع صندوق النقد الدولي من دون استراتيجية. وهذا يفسّر الكمّ النوعي من التقارير الغربية التي تجمع على أنّ لبنان لم يقدّم مخططاً لوضع حد للانهيار بعد مرور سنتين ونصف السنة على أزمة السيولة التي حرمت اللبنانيين من مدّخراتهم.
الكلّ ضد الكلّ في فوضى اللوائح الانتخابية، في الوقت الذي يحتاج فيه البيت اللبناني إلى أشد أنواع التماسك
يزيد هذا المناخ السياسي البائس من حجم الخسائر، ويضع قيوداً على أيّ تغيير سياسي آتٍ. ولا يقاس حجم الخسائر التي يتكبدها اللبنانيون بالميزان مع عملية انتخابية، الكلّ يعدّ العدّة فيها للتخلص من الآخر بدل الحوار، الكلّ ضد الكلّ في فوضى اللوائح الانتخابية، في الوقت الذي يحتاج فيه البيت اللبناني إلى أشد أنواع التماسك.
لبنان يبيع العالم قصصاً كاذبة وهمية مثل تاجر البندقية في مسرحية شكسبير، فيما الواقع السياسي الدولي لم يترك مناسبة لتحفيز القيادات السياسية لإنتاج سياسات معتدلة. أما بلاهة هاملت، السياسي اللبناني، لا تنتهي، ما يعقّد فرص الاستجابة لحلول ممكنة أو "اختراع حلول" وفق التعبير الممتاز للرئيس الفرنسي، ماكرون، على هامش حملته الانتخابية الرئاسية.
حتى في مقاربة مع العراق الذي يقع في نقاط تشابه عديدة مع لبنان، أصبح العراق من أكبر المستفيدين من مبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها الصين التي تعمّق علاقاتها الاقتصادية مع بلدان الشرق الأوسط، فيما لبنان يتجه إلى مزيد من التعنت والعزلة وإهدار فرص التنقيب عن النفط على حدوده الجنوبية، بالعودة إلى اتفاقٍ كانت تحفظت عليه في واشنطن في عهد الرئيس ميشال سليمان قبل عشر سنوات، ويعاد طرحه مجدّداً على خط التجاذبات الرئاسية. النتيجة خلطة سياسية وتوغل في التيه والمصالح الصغيرة والانقسامات وفوضى سياسية غير موجودة في الكتب. ليس هناك متسع من الوقت للتساوي بين ما تقوم به الدول المتقدّمة والدول الضعيفة حتى مع شعوبها في مواجهة الأزمات المتتالية، كيف في حالة لبنان الذي يجاور فوضى مقبلة شرسة؟