لبنان .. انكسار جماعي
للانكسارات أوجه كثيرة. وما يجري في لبنان يمكن تصنيفه في باب الانكسار الجماعي. آثاره راسخةٌ لا يمكن تصوّر أنها ستزول ولو بعد عقود. وطبعاً، مهما كان الحديث عن حالة جماعية لا يمكن أن يشمل ذلك كل اللبنانيين، فالتعميم من باب المزايدة وإنكار الوقائع والانقسام المتجذّر الذي لا يوفر حتى مصيبة بحجم "4 آب/ أغسطس" (الانفجار الكبير في مرفأ بيروت)، يفترض أن تكون في تصنيف الكارثة الوطنية التي لا خلاف عليها.
لبعض من اللبنانيين، ما جرى يوم انفجار مرفأ بيروت مجرّد حدث عابر تم تجاوزه نفسياً وسياسياً منذ الأسابيع الأولى. وبالنسبة لبعض آخر، ذلك اليوم المشؤوم مفصلي. ما قبل انفجار مرفأ بيروت ليس كما بعده. ليس فقط بسبب دوي الانفجار الذي لا يزال عالقاً في الأذهان، ولا بسبب حجم الدمار الذي يعاينه يومياً سكان العاصمة بعد عام من المجزرة. بل جرّاء ما تفعله السلطة، والتي أقل ما يقال عنها إنها مجرمة وفاسدة ووقحة. لم يكفها تدمير أجزاء كبيرة من العاصمة وإهمال إعادة إعمارها، تاركة للضحايا الأحياء مواجهة مصيرهم بأنفسهم، وكأنها من كوكب آخر لا صلة لها بما حدث.
تقول هذه السلطة للبنانيين يومياً: نعم فجّرناكم، وليس لديكم أي شيء لدينا، فماذا أنتم فاعلون؟ منذ اللحظة الأولى للانفجار، حاولت طمس الحقيقة. وهي صاحبة سوابق عديدة بذلك. لجان تحقيق ومواعيد وهمية لإعلان النتائج سرعان ما تبخّرت. وعندما حاول المحقق العدلي الأول، فادي صوان، المسّ بأزلام السلطة تم سريعاً كفّ يده. ولا يبدو مصير المحقق العدلي الثاني، طارق البيطار، بعيداً عن سلفه، ولو بعد حين. بلغت وقاحة هذه السلطة حد رفض جميع طلبات رفع الحصانات، سواء تعلق ذلك بنواب ووزراء، وحتى رؤساء أجهزة أمنية.
الخلاصة التي كان يعرفها اللبنانيون جيداً، ولكن المحقق العدلي أعاد التأكيد عليها، أن جميع المسؤولين كانوا يعلمون بوجود نترات الأمونيوم، وأن الجميع لم يأبهوا، وحتى عندما انفجرت النترات كأن شيئاً لم يكن. وعوضاً عن رفع الحصانات، إيهام اللبنانيين بالرغبة بإجراء محاسبة لو شكلياً، يتبارز المسؤولون للقول إن ذلك لن يحدُث. ولا يستصعبون ابتكار الأعذار الواهية والتمترس خلف قوانين وأنظمةٍ هم وضعوها، ويدركون جيداً ثغراتها. ولتكتمل المسرحية بسخريتها الموجعة، كان لا بد من ذلك الإعلان عن منح رئيس الجمهورية "الموافقة الاستثنائية على اعتبار ذكرى فاجعة انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020، يوم حداد وطني". بالنسبة له، هذه حدود ما تستحقه جريمة العصر، يوم حداد وتعطيل للدوائر الرسمية. أما أداء دوره ورفع الغطاء عن المتورّطين في الجريمة بما تكفله صلاحياته التي لا ينفكّ المحيطون به يلوكون الحديث عن إهدارها، فذلك ضربٌ من الخيال. وتماماً مثلما تجاوزت هذه الطبقة الحاكمة خلافاتها، وتناتشت المناصب والنهب والسرقات، من أجل وأد انتفاضة 17 تشرين ( 2019)، ها هي مرة جديدة تجتمع على هدف إضافي، منع محاسبة المتورّطين بجريمة 4 أغسطس.
ولذلك، تحرّكات أهالي الضحايا، أياً كان شكلها، بما في ذلك محاصرة منازل المسؤولين، وبشكل خاص وزير الداخلية محمد فهمي، أقل المتوقع. للأهالي مطلق الحق والحرية في فعل كل ما يخطر على بالهم. هم يخوضون ليس فقط معركة محاولة استرداد حق ذويهم الذين خسروهم يوم 4 أغسطس، وبعضهم لم يعثر على جثثهم، إنهم عملياً ينوبون عن لبنانيين كثيرين. الأهالي يحرّكهم وجع الخسارة والخذلان، بينما الآخرون يكبلهم الإحساس بالعجز.