لبنان العَصِيّ والمُسْتَعْصي

26 يوليو 2021
+ الخط -

(1)
وردت عبارة في خطاب ياسر عرفات، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في عام 1974: "لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي". قال الزعيم الراحل العبارة، وكرّرها ثلاث مرات. كلما تمّ استحضار الوضع اللبناني المتفاقم، اليوم، وردت على الذهن (ذهني بالطبع) عبارة عرفات تلك. في محاولة لتفسير التداعي الوارد، يمكن إحلال غصن الأرز محلّ غصن الزيتون. الشعوب تصطنع رموزها لتكون أقدر على التعبير عن هوياتها وكينوناتها. الزيتون أنسب للحالة الفلسطينية، بينما الأرز أنسب للحالة اللبنانية، بالنظر إلى سياق كلّ واحد منهما، جغرافياً وتاريخياً وثقافياً وسياسياً. ولذلك، لم يكن غريباً أن تستوطن شجرة الأرز النشيد الوطني للبنان، كما في العبارة التالية: "مجده أرزه، رمزه للخلود". هل كان الأرز شجرة لبنان الوحيدة؟ ثم هل كان لبنان وحده من تنبت فيه هذه الشجرة؟
ما هو معروف عن الأرز، في طبيعته ووجوده، أنّه شجر مُعمِّر. وإن يبدُو أنّ كتابة النشيد حديثة، ولبنان الحالي حديثاً، فإنّ جذور الشعب اللبناني عريقة، ومعها تاريخه الحافل، وثقافته المتنوعة. ومع أنّ الأرز أضحى قليلاً في لبنان، بفعل مُتغيِّرات البيئة والجغرافية، فإنّ ما يتهدّد البُعد الرمزي للأرز، باعتباره رمزاً لمجد أمة وخلود شعب، هو تفتُّت الوطن وتلاشيه. لذلك، يمكن العودة إلى عبارة عرفات، على أساس استعارتها، وتحويرها بما يتلاءم والحالة اللبنانية. ومثلما كانت عبارة الزعيم الفلسطيني مُوجَّهةً إلى جميع الأمم، كذلك تكون الاستعارة الجديدة المُحوَّرة: لا تسقطوا غصن الأرز. هذه الشجرة الخالدة هي رمز حياة ونور وعطاء، في هذه الصحراء الممتدة من المشرق العربي. لذلك، يغدو الخطاب المُفترض، هنا، مُوجَّها إلى العرب، أكثر من أيّ أمة من الأمم الأخرى. الرسالة المباشرة، هنا، مفادُها: لا تسقطوا لبنان من أجنداتكم وحساباتكم.

العرب مدينون للبنان، بما أسداه من "دروسٍ"، في الأدب والفنون والصحافة. ومدينون بما أسدى من "فواتير" الدم، تلك المرتفعة أكثر من غيره، في الدفاع عن الحقوق العربية

كان لبنان الحديث، على الأقل، مشرق العرب. رصيده الأكبر، الذي كان فيه فضل على الأمة، أنّه كان "معلِّمَها". وفي استعارة لزكي نجيب محمود، جاءت في صيغة عنوان لأحد كتبه "المتأخرة" نقرأ عما يسمّيه "الشرق الفنان". هذا الشرق المشرق المتوهج، من وجهة نظر تكون مطابقة، هو لبنان. إنّه الشعب الذي يصون تنوعَّنا، وبالتالي يبتعد بنا، ولو قليلاً، عن تشابهنا. إنّه مركز تعدّدنا المتنوع، وبؤرة اختلافنا المُبدِع. من لم يترسّم من اللبنانيين، ومن "الشوام" بصفة عامة، المسالك الأولى إلى "النهضة"؟ أين كان النفط والغاز حينئذ؟ أين كانت إسرائيل "المُصطَنعة" التي صار بعض العرب يتّخذها قِبلة "حِمى" اليوم؟
(2)
العرب مدينون للبنان، بما أسداه من "دروسٍ"، في الأدب والفنون والصحافة. وفوق ذلك، هم مدينون بما أسدى من "فواتير" الدم، تلك المرتفعة أكثر من غيره، في الدفاع عن الحقوق العربية، وما زال. لذلك، من واجب العرب أن يؤدّوا بما هو زائل (المال) ما ليس زائلاً (الثقافة). فمن انقلاب الحال الدراماتيكي أن يعيش الشعب اللبناني عوزاً، بل أن يتضوّر مواطنوه جوعاً. في اعتقادي، ما وُجد اللبناني إلّا لكي يُبدع ويتفنّن. مكانه ها هنا، ضمن قبائل الأمة وشعوبها، فناناً ومُعلِّماً. هل هناك رسالة أنفس من هاته في النُّبل؟ تلك الرسالة التي يتقنها اللبناني، في أدبه، وموسيقاه، في طبعه، ورُقِيِّه.
لقد مَثّل لبنان، منذ بداية التاريخ الحديث، بؤرة العالم العربي. كلّ تعدّد العرب وتنوعهم ظلّا يجتمعان في أرضه وشعبه. ذلك أنّ في أصغر "نقطة" جغرافية تلتقي قبائلنا وشعوبنا، بكلّ طبائعها وأمزجتها. هذا التعدّد المتنوع، الفريد والأصيل، هو ما كان يستديم "سرّ" لبنان وسحره. وكلّما "رقّ" هذا التعدّد المتنوع، بأن صار غنى ثقافياً وحضارياً، ارتقى في "سلم" التعايش والتحضر، ودلّ على حيوية الأمة وانفتاحها. وبالتالي، ميلها نحو العيش المشترك. لبنان العربي هو الذي كان "يُدوزن" إيقاع العرب. ويوم اختلّ الميزان، أضحى باقي العرب يتسابقون إلى "دوزنة" إيقاع لبنان. وهنا، تتعيّن إحدى أكبر معضلات لبنان الحالي. لم يعد ذلك الـ"لبنان" المعلم الفنان، بل المتعلّم العصبي، المستعصي، المتطرّف. وفي هذا، كفّ لبنان عن منح العرب دروسه في فن الحياة، أي العيش المتعدّد المشترك. لقد كنا نغبط لبنان على تعدّده، في رسالاته ومذاهبه وإثنياته. أما اليوم، فبتنا نحمد الله، نحن باقي العرب، على "واحديتنا" الرتيبة المُضجرة والقاتلة.

كلّ ما يجري على ألسنة المسؤولين اللبنانيين، بجميع مستوياتهم ورُتَبهم، هو حديث بدون أي مصداقية

(3)
حين خرج سعد الحريري، بعد لقائه الأخير بالرئيس ميشال عون، كانت نظراته الشاردة تقول كلّ شيء. لقد "انكسرت الجرّة" بين الطرفين، كما جاء على لسان صادق الموسوي في مقالة له. وبانكسار تلك الجرّة، يكون لبنان قد أمعن في كسر ما تبقى من جراره. كم تبقى له، الآن، من جرّةٍ سليمة؟ في وصف فشل اللقاء، الذي كان موضوعه تشكيل الحكومة، قال وزير الخارجية الأميركي، بلينكن، إنّ "الاقتصاد اللبناني في حالة سقوط حر". وقد ذهبت صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية، قبل بضعة أيام على الذكرى الأولى، لانفجار ميناء بيروت المزلزل، إلى أنّ لبنان كُلَّه في سقوط حرّ، وحتى من دون طيّار. سنة مرت على الانفجار، وتسعة أشهر من دون خروج الحكومة إلى الوجود. وبدل أن يوقظ الانفجار المسؤولين اللبنانيين، بحكم الزلزال المدمر الذي أصاب البلاد والعباد، استمرّ الجمود السياسي، واستمرّت معه مأساة عموم الشعب. كانت حادثة الانفجار بمثابة اختزال للتراجيديا اللبنانية: الفساد، الفشل، الأنانية، اللامبالاة، الانتحار.
كلّ ما يجري على ألسنة المسؤولين اللبنانيين، بجميع مستوياتهم ورُتَبهم، هو حديث بدون أي مصداقية. ما معنى أن يُعبِّر نبيه بري عن اعتذاره عن تلقي تهاني عيد الأضحى، وهو من هو في سُلَّم مسؤوليات الدولة؟ وما معنى أن يبعث الرئيس عون الأمل في نفوس اللبنانيين، بحلّ "معضلة" تشكيل الحكومة قريباً؟ هل ما زال هناك مُتَّسع لصبر اللبنانيين، بعد سنة تبدو الأصعب في حياتهم؟ العودة إلى "مَحْضَر" اللقاء، بين عون والحريري، تختصر دلالة التحدّي القوي بين الرجلين. في بعض ما تضمنه ذلك المحضر، كما نشرته بعض المواقع:
- الحريري: فخامة الرئيس، أنت تقول لي اعتذِر.
- عون: إيه، تفضّلْ اعتذِر.
- الحريري: أنت متأكّد، يا فخامة الرئيس، قبل الوصول إلى قرار الاعتذار أنّك لا تريد أن نعطي أنفسنا مهلة تفكير...
- عون: لا، ما في لزوم، وما في لزوم ترجع بُكْرا (غداً).

الوضع اللبناني الكارثي، في سقوطه الحرّ المستمر، لا يستدعي كلّ ذلك التشدّد في موضوع الوزراء، الذين هم "من حصتي" أو "من حصتك"

كيفما كانت "حقيقة" المحضر، واقعية أم متخيلة، أمينة أم مُبتسرة، فإنّ مجريات الأمور لا تبتعد عما يكون قد جرى. هناك تقوقعٌ ذاتي، كلّ واحدٍ خلف مُبادرته، ومن خلفها "جماعته". ومما يجعل الصعوبة شديدة، في محاولة للتخلص من المأزق الحالي، أنّه مأزق/ عائق "مُنظَّم"، حسب وصف لوزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان. وما أصعب المآزق المُنظَّمة، بحكم الحاجة، في التخلص منها، إلى الإرادة الصلبة، الواعية والشجاعة. ومهما قلنا عن الحريري، عن سياسته وتوجهاته، فإنّ "استكبار" الرئيس عون بادٍ لعيان بعض آخر. السياق الأخير مُستعار من صادق الموسوي، في قراءته مبادرة عون أنّها كسر شوكة رئيس الحكومة "المسلم".
من المآزق التي يمكن أن يقع فيها المتابع للشأن اللبناني الوقوع في الطائفية. المأزق "المُنظم" الذي تمّت الإشارة إليه، آنفاً، هو ذو بُعْد طائفي. هكذا، هم السياسيون يمارسون السياسة، وفي إثرهم قد ينساق المحللون السياسيون. ادّعاء النأي باللسان عن النَّفَس الطائفي، سرعان ما تفضحه مجريات الحديث/ التحليل، بمجرّد الانتقال من "المُقدِّمة"، وما تفترضه من نياتٍ حسنة. ومع ذلك، المسؤولية الكبرى تقع على عون، من موقعه على رأس الدولة. الوضع اللبناني الكارثي، في سقوطه الحرّ المستمر، لا يستدعي كلّ ذلك التشدّد في موضوع الوزراء، الذين هم "من حصتي" أو "من حصتك".
هل هناك حاجة للخروج من اتِّفاق الطائف؟ ما هي واقعية ذلك "الخروج"، في ظلّ وجود نظام أوليغارشي طائفي مصالحي؟ لبنان "النهضة" الذي طالما دعانا، في أدبياته الفكرية والسياسية، إلى أن نكون عرباً، بل عروبيين أكثر من اللازم أحياناً، يأبى إلّا أن يستمر طائفياً في نهجه. ولئن كانت المرحلة قد نضجت، للتخلّص من تبعات "الطائف"، فليس بالعودة إلى هيمنة موقع الرئاسة على باقي المواقع في الدولة، وإنّما بالاتجاه إلى دولة المدنيّة المُواطِنة. التقوقع حول الذات، ومن خلف ذلك حول الجماعة، بحثاً عن حماية وأمان مُفترضيْن، هو خضوع مُدمِّر لما سُمِّي "العائق المُنظَّم". هل يحتاج "مُعلِّمو النهضة" إلى من يرشدهم، في طريقهم إلى الخروج من وضعهم الكارثي الحالي؟ هل يتردّدون في عودة بلد الأبجدية" إلى سيرته الأولى (وغير البعيدة): سويسرا الشرق.
"الله يعين البلد"... أفضل ما يمكن الاحتفاظ به من عبارات الحريري، بعد اعتذاره عن تشكيل الحكومة.