لا مكان على الشاشات لغير الجميلات

30 يناير 2022
+ الخط -

أول ما يلفت نظر معظم الرجال، وحتى أغلبية من النساء، على شاشات التلفزيون، شكل المذيعة ومستوى جمالها، وإذا لم تعجب بعضهم نعتوها بالقبح، أو قارنوها بأجمل المذيعات، عينيها أو أنفها، فضلاً عن أنّ الجمال معيار أساسي في التوظيف، مهما كانت الكفاءة، فيتم استبعاد من لا يملكن سحر الجميلات، فتلجأ الفتيات إلى عمليات التجميل لتغيير شكلهن حتى يثبتن كفاءتهن التي ليس لها مكان من دون أن تحوز إعجاب الرجال القائمين على توظيفها.

الجميع مذنب: القائمون على الإعلام والمشاهدون على حد سواء. وقد كنت شاهدة على معاناة فتيات حسنات الطلعة، ولكن دون "المطلوب"، ولا يملكن ثمن عملية تصحيح اعوجاج أنفي أو إجراءات أخرى "توصلهن إلى مستوى الجميلات"، فتُطمَر أحلامهن. وإذا كنّ من المثقفات والكفوءات يُوظَّفن، أحياناً، لكتابة النص والإعداد للمذيعات، براتب أقل، وفي أغلب الأحيان، من دون تقديرِ يُذكر. وحتى الجميلات لا يسلمن من النقد والتعليقات الجارحة، بعد أن تظهر التجاعيد وتَنكمش الشفاه، فيلجأن إلى عمليات تجميل، ليُفاجأ الجمهور بأنهن أصبحن أصغر بعشرين سنة أو حتى ثلاثين.

لتقديس الشكل تداعياته على القيم المجتمعية والمهنية، في عالمٍ يطغى فيه السعي إلى "النجومية"

لا يمكن لوم من خضعن لجراحات تجميل من المذيعات، فالعالم قاسٍ، والنساء أشد قسوة في ملاحظاتهن، لكن عمليات التجميل تضمن استمرار المذيعات في أعمالهن، أو توفر لهن برامج كنّ يطمحن إليها، وتكسبهن المعجبين، ويزيد الإطراء عليهن وإن مشوباً بنفاق وكذب، لا يهم، فهذا هو العالم الذي يُقدّسُ الشكل. ونجد الأغلبية تتحدّث عن تفضيل "الشكل الطبيعي" وأنّها تكره عمليات التجميل، وهناك من يقول هذا عن قناعة وصدق، لكنها أيضاً جملة تُرَدّد لتخفي النفاق والكذب. ولو تحدّثتم مع إعلاميات عن مسيرتهن أو عن بداية حياتهن، لسمعتم قصصاً مماثلة كثيرة من كاتبات، أو باحت بها فتيات عن إحباط أصابهن أو يأس شعرن به، فتيات قديرات وقفت مقاييس الوجه والجسد أمام تقدّمهن في مهنة الصحافة والإعلام، حتى وإن تفوقن على أخريات.

لا يدين هذا المقال الجمال أو الجميلات، بل المسألة هنا محاولة للإضاءة على جانبٍ معروف يُتجاهَل، لأنّه مقطعٌ من أزمة مجتمعات العالم الرأسمالي، ونحن جزء منه، عالم "البراندات" (العلامات التجارية)، وعالم تسليع الإنسان وتشييئه. ولا يقتصر ما تقدّم على القنوات العربية، بل يشمل معظم المحطات العربية والأجنبية، باستثناء "بي بي سي" البريطانية و"بي بي أس" الأميركية. وقد لا يكون لهذا المقال أي صدى وتأثير، فجميعنا اعتاد اعتبار الجمال على الشاشة الجاذب الأكبر. أما عن المستوى، وإن تباين بين إعلامية مجدّة وأخرى تعتمد حصراً على شكلها، فمعروفٌ أنّ الجميلات يحظين بدعم أكثر مِمّن هم أكثر ثقافة، تطلب منهن إدارات القنوات توظيف عقولهن، ليبدون بارعاتٍ على الشاشة، لكنّ هذه الفرصة لا تتاح لمن هنّ أقدر منهن. ويحدُث أن تُعَدّ برامج لتأطير المذيعة الجميلة، ولو كانت متدنية الثقافة. ولا يعني هذا أنّ الجمال يلغي ثقافة المذيعة وقدراتها، فهناك أكثر من مثال على مقدّمات برامج يجمعن بين الجاذبية والكفاءة، لكن يجب نقد الظلم الذي يقع على صحافيات مجتهدات، وهن على قدر من الجمال "دون الشكل المطلوب"، ما يضطر فتيات إلى أن يجرين عمليات تجميل، قبل التقدّم للظهور على الشاشة.

شعرت الفتيات السوداوات في أميركا سنوات طويلة بأن لا أمل لهن في طموح إعلامي وسينمائي

قد يقول قائل إنّ هذه ليست أهم مشكلاتنا، لكنها مشكلة حقيقية، فلتقديس الشكل تداعياته على القيم المجتمعية والمهنية، في عالمٍ يطغى فيه السعي إلى "النجومية"، فما ينطبق على المذيعات ينطبق، بدرجةٍ لا تقارن مع نجوم الفن والسينما، نرى فتيات تقلدهن. وهذه حرية شخصية، لكن المشكلة تبدأ حين يكون التركيز على الشكل والملبس على حساب تطوير الذات والثقافة. ما يحدث مع المذيعات مؤشّر على ظاهرة أوسع، إذ تفهم فتيات كثيرات أن الشكل هو الأساس في حكمها على الآخرين وعلى نفسها.

كاتبة المقال معنية بالظلم في عالم الإعلام، للفتيات والشباب أيضاً، والذين يكتشفون أن الأداء والكفاءة ليسا كافيين، إذا كان لدى أي منهن أو منهم سعي نحو تقديم البرامج أو إذاعة الأخبار، فيما شابات وشبانٌ يعتبرون أنّ شكل كلّ منهم ومظهره يعطيها ويعطيه أحقية على غيرهما، فيهملون فهم الصحافة، أو العمل المنتظر مهم، أي هناك ضياع لفرصة قبول هؤلاء بتنمية وعيهم وثقافتهم، لأنهم لا يرون إلّا انتصار المظاهر.

المسألة الأوسع أنّ في تقديس الشكل ظلماً للجميع، والحكم على الوجه من أخف تجلياته، فنحن مسكونون بالحكم على مستويات الجمال ضمن مقاييس النجومية الطاغية. الأخطر أنّ ما يحدث جزء من تسطيح المجتمع، وتغييب للوعي، فمستوى"الجمال" لا يحدّد قدرات الفتاة ولا يعكسها. لقد مضى زمن الاعتقاد أنّ الجميلة يجب أن تكون نجمة، والأقل جمالاً عالمة، فالنساء اكتسحن كلّ المجالات، لكنّ التسطيح يخلط المفاهيم، ومعظم الفتيات قد لا تجد الواحدة منهن من هي قريبة من شكلها على الشاشة. وينطبق هذا أكثر على السينما والفن، وذلك كله نتيجة مفاهيم جمالية لا تستطيع بعض الفتيات الوصول إليها.

دعوة للفتيات إلى القناعة بأنّه مهما كنّ تحت ضغط "تجميل الوجه" لا بدّ من الإيمان بقدراتهن

مثال قد لا ينطبق تماماً، وإن كانت هناك مقاربات. لقد شعرت الفتيات السوداوات في أميركا سنوات طويلة بأن لا أمل لهن في طموح إعلامي وسينمائي، إلى أن بدأت المذيعات والفنانات من أصول أفريقية بالظهور، وتلك كانت عنصرية فاقعة، لكن اعتبار الشكل واللون، فمجتمعنا يميل إلى بيضاوات البشرة، يحدّد أحلام الفتيات وفرصهن، فنحن لا نخلو من تمييز وعنصرية، كما رأينا في ردود فعل كثيرة على مذيعة قناة الجديد اللبنانية، داليا أحمد، السودانية الأصل، بغضّ النظر عن موقفها السياسي، ولم تكن تعليقات كثيرة، بل سياسية، فضلاً عن الطعن والتجريح العنصريين بلون بشرتها.

تقديس الشكل يرافقه تقديس المظهر الشاب، فبمجرد تقدّم المرأة في العمر في مجالٍ عام ظاهر للعيان، وحتى غير ظاهر على الشاشات، تصبح مصدراً للتندّر من زميلاتها وزملائها. ولذا دور الإعلام مؤثر جداً، فقلما تظهر مقدّمة برامج أو قارئة نشرة أخبار الآن عمرها فوق الخمسين عاماً، ما عدا استثناءات قليلة، من دون عمليات إعادة نحت وصقل لبشرتها وتقاطيع وجهها وقامتها. وحينها لا تخفت الألسنة عن السخرية. وقد تبقى هذه المرأة الإعلامية مقبولة إذا ما نجح طبيب التجميل في إظهار وجه أملس مشرق خالٍ من أحافير الزمن.

لا يهم، في معظم الأحيان، إذا كان الشخص تقدّمياً أو محافظاً، إذ يخفي ظاهر الكلام التقدّمي موقفاً ذكورياً، فما زلنا في مجتمع أبوي ذكوري، ظاهرة الحكم على جمال المرأة ليست أبشع تجلياته. وما يدعو إليه هذا المقال رفض النفاق الذي تكرسه وسائل الإعلام، ودعوة إلى اعتراف الإعلام بذنبه، ودعوة للفتيات إلى القناعة بأنّه مهما كنّ تحت ضغط "تجميل الوجه" لا بدّ من الإيمان بقدراتهن، فالشكل لا يصنع حكمة، ولا يقلل من قيمة الإنسان أو يرفعها.