لا ... لسنا على ما يُرام
لا يُقصد في العنوان أعلاه الأنظمة ولا الحكومات، ولا الأحزاب والفصائل أو الجمعيات، ولا حتى النخب. إنّما نحن الذين لسنا أبداً على ما يرام، نحن الناس العاديين، أبناء الأحياء الشعبية في العواصم والمدن وضواحيها، وأبناء "الحتت" والنجوع والقرى والدساكر في الأرياف البعيدة، عمالاً وفلاحين وطلبة، وموظفين ومعطّلين ومهمّشين وكتبة، نحن لسنا على ما يُرام.
وهنا لا أقصد أحوالنا الاقتصادية والمعيشية المُهينة، ولا أوضاعنا الاجتماعية المُنهارة، ولا واقعنا التعليمي والثقافي المتردّي والمُتخلّف، وكلّها قضايا حيوية وأساسية لأيّ مجتمع، إذا ما تفاداها يُمكنه، أقلُّه، أن يقف عند الحدود الدنيا التي تمنعه من الانزلاق في انهيار معيّن، يمكن لحراك شعبي محدود أو واسع أن يخرج الناس منه فيستعيدوا مسيرة النهوض والتقدّم. لكنني هنا بالضبط أتحدّث عن العامل الحاسم في أيّ حراك اجتماعي يجعل من هذا النهوض أمراً ممكناً أو متوقّعاً في أيّ لحظة تاريخية سانحة، ردّا على أيّ انهيار أو درءاً له. وليس هذا العامل الحاسم سوى الشعور الجمعي بأهمية التضامن والتكافل الاجتماعي بشأن القضايا الأساسية التي من شأنها أن تحدّد مصير المجتمع ومستقبله.
أقول، لسنا على ما يُرام حين أشاهد عبر الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي كلّ ما حدث أخيراً في مدينة جنين ومخيّمها من جرائم المحتل الصهيوني من اقتحام وتجريف وترويع وقتل واعتقالات وتشريد للسكان وتدمير للمنازل، ذلك كلّه الذي شاهده الملايين من البشر تماماً كما شاهدتُه: جنود محتلون مدجّجون بآلة حربية مرعبة من جرّافات ودبابات وطائرات ومروحيات ومسيّرات وأعتدة متطوّرة، ذلك كلّه في مواجهة تجمّع متواضع البنية، مكتظ بالسكان، اسمه مخيّم جنين، تحرُسه مجموعات من الشبان المقاومين باللحم الحيّ وبعتاد بدائي متواضع. ... كان العرض حيّاً على مدى ساعات الاجتياح، ونحن كنّا الموتى بأحداق مفتوحة نراقب ولا ننفعل.
أنظمتنا في واد وشعوبنا في واد آخر، وبالأحرى، أنظمتنا تقف في الخندق المقابل، فلا ننتظر منها سوى كمّ الأفواه وكبت الأصوات المختلفة
لا، لسنا على ما يرام! هذا أقلّ ما يمكن به وصف الحالة الشعبية الراهنة عبر البلاد العربية، لغة وثقافة وتراثا. وإذا كنتُ قد أكّدت دائما أنّ أنظمتنا في وادٍ وشعوبنا في وادٍ آخر، وبالأحرى، أنّ أنظمتنا تقف في الخندق المقابل، فلا ننتظر منها سوى كمّ الأفواه وكبت الأصوات المختلفة، وإذا كان صمت أحزاب وقوى وبعض نخبنا مريباً، فماذا عن صمت الشوارع والساحات؟ وما هي الأسباب الحقيقية التي جعلت الشعوب في حالٍ من الخدر أو الذهول أو اللامبالاة؟
سبق أن اتُّهِمت الانتفاضات الشعبية العربية بأنها همّشت قضية فلسطين، في حين لا تزال شعارات التلاحم والتضامن مع فلسطين والشعب الفلسطيني تزيّن الجدران والأسطح المتداعية تحت قصف براميل النظام الأسدي في سراقب، وفي غير سراقب من المدن السورية المنتفضة، ولن ننسى اقتحام سفارة الاحتلال الصهيوني في القاهرة تكراراً، واستبدال المنتفضين العلم الصهيوني بالعلم الفلسطيني الذي طالما ازدانت به ساحات انتفاضات تونس وصنعاء... لكننا اليوم، نحن الشعوب، لسنا على ما يرام.
نحن شعوب مهزومة ونخب راحت تبحث عن ملاذات آمنة
تعيد الأنظمة تشكيل نفسها وتأهيلها محتفلة بانتصاراتها على الشعوب، فتستعيد علاقاتها وتعاونها في مختلف الشؤون، وفي مقدمها الشأن الأمني، في حين تلوك الشعوب مرارة الهزيمة حيال أنظمة وُجدت وتستمر لأجل هذا فقط. النخب، المناضلون الحقيقيون الذين تصدّوا وخاضوا بسلميّة شُجاعة تجربة الانتفاضات الشعبية تمّ سحقهم، قتلاً أو سجناً أو إخفاء قسرياً أو هجّروا في أربع جهات الأرض، ولم يتبق لنا سوى أشلاء شعوبٍ ذاهلةٍ واجمةٍ غارقةٍ في الخوف والمعاناة والإفقار والترويع والمهانة وأشلاء شعوب ارتدّت إلى الطائفة والمذهب والقبيلة. وصار كلّ همّها النجاة، متوسلة كلّ ما تيّسر من تكافل أسري وعشائري وطائفي ومذهبي وعرقي.
لا، لسنا على ما يرام. لم تتحرّك عاصمة أو مدينة تضامناً مع جنين ومخيمها، فالمدينة المستباحة التي لا تستطيع أن تتصدّى لقاهرها لا يمكن التعويل عليها في تضامن بريء مع جنين وفلسطين.
لا، لسنا على ما يرام، نحن شعوب مهزومة ونخب راحت تبحث عن ملاذات آمنة، فإلى متى؟