لا تُجمّلوا واقع غزّة الأليم
لا أحد يجب أن يصدّق مقطع فيديو دعائيّ عن مائدة إفطار الغزّيين بين خيام النزوح في رفح، وحين أصف الشريط المصوّر بأنه دعائي فهذا أقلّ ما يمكن وصفه، لأن تصوير فيديو عن الواقع في رفح تحديداً، وحيث استقرّ أكثر من مليون نازح سوف يزيل هذه الصورة المجمّلة للواقع بنسبة مائة بالمائة، فماذا لو تمّ تصوير شريط حيٍّ لإفطار الغزّيين وسحورهم في غزّة وشمالها تحديداً، وحيث يعيشون مأساة ومجاعة بكل معنى الكلمة، وحيث تطبق عليهم آلة الحرب والجوع الناتج عن شحّ الموارد وتغوّل تجّار الحرب؟
على أرض الواقع، ترى حقيقة مجرّدة، وهي أن ما تبقّى في غزّة هو أذيال حياة، وأنّ كلّ ما يجري نشره لا يشبه ما يعيشه البؤساء، فالأصناف المرصوصة في الأطباق أصبحت مفقودةً منذ بداية الحرب، والغالبية لم تتذوّق صنفاً منها، ومن يجمع بعضها، سواء كان مخزوناً قاربت صلاحيته على الانتهاء للمستهلك الآدمي أو حصل عليه من جهة ما أرسلت مساعداتٍ عن طريق الشاحنات البرّية لكي يبرهن لهذه الجهة أنّ ما أرسلته قد أفرح النازحين وأطعمهم، ولذلك عليها أن تنام قريرة العين براحة ضمير.
الواقع أنّ أهل غزّة لم يتقبّلوا حياة الخيام التي أجبروا عليها بعد نزوحهم وتدمير بيوتهم، ولم يألفوا الحياة عديمة الآدمية ومنتفية الخصوصية والتي لا يمكن أن ترقى بأيّ حال لمعنى البيت بمفتاحه وبابه وسقفه وجدرانه وما تمنحه هذه المقوّمات من أمان أولاً، ومن دافع لاستمرارية السعي والحياة على العكس من حياة الخيام أو حتى اللجوء لبيوت الأقرباء بنسبةٍ قليلة، فالنتيجة أنّك لستَ في بيتك، وأنك فقدتَ كل دافع للحياة.
إذا كان الاهتمام بتجميل واقع الحياة في الخيام، خصوصاً في شهر رمضان، ومع تضاؤل الأمل بحدوث انفراجةٍ أو استراحة محاربٍ على شكل هدنة إنسانية كان يتوقّع التوصل إليها قبل حلول الشهر الفضيل، وما يمثّله من روحانيةٍ عاليةٍ عند كلّ العرب والمسلمين، فهذا الاهتمام أصبح ينأى إلى منحدر قميء، وهو تدجين الوعي، بحيث يصوّر الاهتمام بنقل الطعام وسيلة لإنقاذ من يتهدّده الموت كل لحظة، وعلينا أن نتخيّل فأراً في مصيدةٍ على شكل صندوق، وقد وقع بها بكلّ سذاجة، ويجول بصرُه في الأنحاء المطبقة عليه، فلا يجد لذّة لطعام يُلقى له من فتحةٍ صغيرةٍ، وهو يعرف أنه سيموت بعد أن تُجرى عليه تجربة، أو حين يقرّر السادي في الخارج أن يقتله، وهذا السادي لم يختر له ميتةً لحظيّة بمصيدة تقليدية نسمع صوت انطباقها على عنق الضحية من الشارع الآخر أو من الطابق العلوي.
تجميل واقع غزّة، ونشر صور موائد السحور والإفطار، ليس إلّا امتهاناً لكرامة الشعب عن طريق إقناع العالم أجمع بأننا نتعايش ونعيش في كل الظروف، فنحن عشنا في بيوتنا المؤثثة الدافئة وها نحن نعيش في الخيام، ونحن راضون وصابرون، ونكتفي بالقليل من الأرز والمعكرونة، حتى ودماء أهلنا تسيل وجثث أحبّتنا قد تركناها خلفنا نهشاً للقطط والكلاب في شمال غزّة أو مهروسة تحت الأنقاض.
كان الأوْلى والأجدر من تصدير صورة الرضا عن طريق إظهار فوانيس رمضان في الخيام وأحبال الزينة فضح المتآمرين على ساكني الخيام وإغاثة هؤلاء النازحين ونصرتهم وإنقاذهم، فصوت صراخهم لم يتوقّف ودموعهم لم تجفّ والضحايا يتساقطون كل يوم وكل ليلة، ولكن سبيل الغوث والنجدة للأسف، وفي كلّ مرّة هو الطعام.
لو سألتَ أي طفل غزّي عن السبب الذي يجعله يقبل أن تنشر صورته وهو يحمل فانوس رمضان فيما هو يتضوّر جوعاً وبطنه الخاوي الضامر يظهر أمام الكاميرات، سوف يجيب قطعاً بأنه يرفض الموت بذلٍّ، وليس لأنه يريد أن يُخبر الجميع بأن الأمر عادي، فما يحدُث في كلّ مكان في غزّة إبادة ممنهجة لشعبٍ، وإن كان العالم يكتفي بإرسال الطعام الفاسد في أغلب الأحيان فعليه أن يتذكّر أنّ العرب في جاهليتهم أغاثوا الملهوف بالسيف، وليس بكسرة الخبز وشربة الماء.