لا تنم قريراً

24 سبتمبر 2023

حسين المنذر ... المغنّي في فرقة العاشقين

+ الخط -

شهدنا عليك وعلى بيروت، يا أبا عليّ، ونعدك أن ندلي بشهادتنا إذا ما طُلبنا إليها أمام محكمة التاريخ، فاطمئن، لكن إياك أن تنام قريرًا؛ لأن العشّاق لا يقرّ لهم قلب ولا جفن، وأنت شيخ العاشقين، كما قدّمت نفسك ذات بيروت، عندما أسّست فرقتك التي اخترت من العشق اسمًا لها.

نعرفك، جيدًا.. نعرف أن اسمك الذي نسيته عندما انخرطت في الثورة، كان حسين المنذر، واستبدلته باسم حركيّ على غرار رفاقك الذين بدأوا بـ"أبو عمّار.. وأبو جهاد.. وأبو إياد..". لكنه لم يكن يدرك آنذاك أن هناك من سيتجاوز حدود سخريته، إلى مدى أرحب يصبح فيه الضحك كالبكاء، عندما تصل سلسلة "الأبوات" إلى "أبو مازن"... وهذه شهادة أخرى لم تشأ أن تطلبها منا، كما طلبت عندما خرجت مع الرفاق من بيروت، بل تركتها لضميرنا الغائب، المجزوم بالصمت.

وفي حضرة "الجزم"، أجزم أنا أيضًا، بأنك لم ترحل عن وهن أو نصب أو يأس، بل عن خيبة فادحة بالثورة والثوار الذين وهبت حنجرتَك لهم في سبعينيات القرن الماضي، وواكبت بأغانيك وفرقتك المحطّة الثانية في مسيرة الثورة، عندما حطّت رحالها في لبنان، مثقلة بأحزان "أيلول الدامي". ومع المنفى الجديد، كان لا بدّ أن تتغيّر الأغنية الثورية، أيضًا، التي عبّرت، في بدايتها، عن انطلاقة الثورة، وقسمها، ووعدها، غير أنها كانت أغنيةً عن "ثائر مطلق"، منزوع من ظروفه الذاتية والموضوعية المحيطة. كانت الأغنية الفلسطينية في مهدها تشبه النشيد الوطنيّ، ربما للتعبير عن فاتحة الثورة. أما أنت، فقد ارتقيتَ بالأغنية إلى مخاطبة الوجدان الثوري، فأظهرت المقاتل كالعاشق. وأرجّح أنك لهذا السبب أطلقت على فرقتك مسمّى "فرقة العاشقين"، استنادًا ربما إلى مقولة أحد القادة الفيتناميين: "العاشق الجيّد هو بالضرورة مقاتل جيد". ولهذا أيضًا باتت فلسطين تتّخذ شكل الوردة، والقلب، ويصبح شعبها أشبه بـ"عود الندّ" عندما يتعلّق الأمر بالوجدان والإنسان، وساحة العشق الخلفية. صار التطريز على الثوب الفلسطيني هوية، و"أم الجدايل" رفيقة الشهداء، حين تضفّر شعرها وتسدله على جبينهم المتورّد بالحبّ والدم.

وفي الأغنية الثانية، أيضًا، كان لا بدّ من التعرية والإدانة، ودمغ من خذلوا الثورة بوسم الخيانة، فقد اتّضحت الرؤية، على خلاف الأغنية الأولى التي اعتبرت المحيط العربي رديفًا للثورة. آنذاك، بدأ الحساب يتخذ أشكالًا تعبيرية جديدة، كان خير من مثّلها محمود درويش، وناجي العلي، وفرقة العاشقين. وإذا كان ثمّة تعبير رسميّ للخروج العظيم من بيروت، يمكن العودة إلى قصيدة "مديح الظلّ العالي"، وأغنية "اشهد يا عالم علينا وعَ بيروت"، فقد كانت الخاتمة هذه المرّة أشدّ فداحة من قرينتها الأولى لدى الخروج من الأردن، الذي ما كان يعني غير الانتقال من خطّ نار إلى آخر، لكن الخروج من بيروت كان يعني إخلاء خطوط النار تمامًا.

آنذاك، غنّى أبو علي لبيروت مودّعًا، وكان يدرك جيدًا أنه يودّع معها فلسطين التي يعرفها؛ لأن الثورة ابتعدت ليس جغرافيًّا وحسب عن وردتها، بل فكريًّا أيضًا، بعدما استبدَلت نهجها، وسلّمت بندقيتها، ورضيت من الغنيمة بـ"سلطةٍ" أقلّ من الإياب، و"نصر" أفدح من الهزيمة. فاختار أبو علي الانكفاء على أوتاره عندما عرف أن من الثورات ما تأكل آباءها عندما تتوقف في منتصف الطريق.

لم يشأ أن يطلب منا شهادة هذه المرّة، وهو يرى "الثوار" يتحوّلون إلى تجار، لم يقل: "اشهد يا عالم علينا وعَ رام الله"؛ لأن الطعنة أقسى من أن يتحمّلها أحد، غير أننا سنشهد، يا أبا عليّ، سنشهد على كل من فرّط بوردتنا وحلمنا، فلا تنم قريرًا ولا مطمئنًّا؛ لأن العشّاق لا ينامون.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.