لأجل علاء
"أورثتني أمي كعكة حجرية ومحبّة تخترق الزنازين.". .. تذكّرت هذه العبارة التي كتبها الناشط المصري السجين علاء عبد الفتاح حين دخلت قاعة نادي "فرونت لاين" للصحافة، يوم الأربعاء الماضي، في لندن، لحضور ندوةٍ تتحدّث فيها أختاه منى وسناء.
حضرت فعاليات في هذه القاعة مرّات، لكني لم أشهدها أبدا بهذا التكدّس، حيث فاض الحضور عن أماكن الجلوس، وبالكاد بقيت أماكن للوقوف. هذا هو ميراث المحبّة، يا علاء، يأتيك بكل الألوان واللغات، لعلّه يخترق زنزانتك.
قدّم الندوة الصحافي والمذيع البريطاني أندرو مار، وبدأ حديثه بسرد قصة الصحافي الروسي البريطاني فيلاديمير كارا- مورزا، الذي كان في لندن حينما بدأ غزو أوكرانيا، فانتقده بشدة ثم صمم على العودة إلى موسكو.. الآن فيلاديمير في زنزانةٍ يواجه احتمال الحكم عليه بالسجن 15 عاما.
تحدّثت منى سيف عن قصة حصولها وإخوتها على الجنسية البريطانية، بعد اكتشافهم بنودا قانونية تسمح بذلك بناء على مولد والدتهم في بريطانيا في أثناء دراسة جدّتهم فيها. حين وصلت منى إلى لندن للمرة الأولى، لم تكن تعرف كيف تبدأ، فتلقّت استشاراتٍ مهمةً من زوج الصحافية الإيرانية البريطانية نازنین زاغري، التي سُجنت في طهران نحو ست سنوات.
هكذا يوضع علاء في قلب سرديةٍ عالميةٍ لتهفو له قلوب شتّى تتوق للحرية. وهذه السردية، في حالة علاء تحديدا، ليست مصادفة، بل هكذا يعي نفسه ويرى العالم. حين سأل أحد الحضور البريطانيين منى عما يمكنهم كأفراد القيام به، أخبرته بأن علاء قال، في كتابه الصادر بالإنكليزية: "أصلحوا ديمقراطيتكم!". يعتبر علاء أن العالم كله يواجه مشكلاتٍ "أممية الطابع"، لذلك يدعو أقرانه في الدول الديمقراطية إلى مكافحة الانتهاكات الحقوقية في بلادهم أولا، ولاستخدام الوسائل المتاحة لديهم من التنظيم الذاتي والضغط على من جرى انتخابهم.
ولا يتناقض ذلك مع رفض علاء استخدام حقوق الإنسان "سلاحا في حربٍ باردة"، كي لا تضيع مثلما ضاعت ثوراتٌ عربية "حين وجد الثوار أنفسهم مجنّدين من دون قصد في حروب بالوكالة"، فالمستهدف الرئيسي للحملة الحالية هو الضغط على أعضاء البرلمان البريطاني بوسائل، منها مراسلتهم من المواطنين في دوائرهم، ليضغطوا بدورهم على الحكومة البريطانية للتحرّك.
ردّاً على سؤال آخر بشأن انحيازات علاء الأيديولوجية، وأثر خلافه مع الإسلاميين، قالت منى إن أولوية المسجون هي النضال فقط لأدنى الأساسيات. وعلى الرغم من منع علاء من أبسط حقوقه القانونية، فإن من المدهش قراءة تصريحاته في 2019، آخر فترة حظي فيها بحرية جزئية، حيث لم يزده السجن إلا تسامحاً. دعا كل الأطراف إلى التخلص من "مشروع الحسم"، وتقبل وجود خصومنا شركاء في الوطن، بل إنه كتب عن كراهيته السجون، حتى صار لا يتمنّاها، ولو لسجّانيه أنفسهم.
رغم هذه المواقف الإصلاحية، أعيد اعتقاله في ظروف أسوأ. ربما كان التفسير قادما من خارج عالم السياسة، بل من شجارات الشوارع، حيث من تقاليدها في مصر تحدّي الخصوم بضرب "التخين فيهم". هذا ما فعلته الأنظمة المصرية المتوالية المستهدفة لإذلال المعارضين وترويعهم. إذا كان علاء هو "التخين فيكم"، فلتروا كيف سننكّل به.
قبل أشهر، خضعتُ لعملية جراحية كبرى لاستئصال ورم سرطاني. أمضيتُ أياما في غرفة العناية المركزة أهلوس تحت تأثير المسكّنات المخدرة. في ليلة كابوسية، شاهدت خبراً كتبته منى عن علاء، انهار السد، انخرطت في بكاء هستيري فترة طويلة، سجّلت لها رسالة صوتية باكية، ثم قرّرت عدم إرسالها.
حدث هذا لي، رغم اعتيادي واقع وجود أحباء في السجون بشكل شبه روتيني. لكن يبدو أن أثر علاء كان أكثر عمقاً بكثير في لا وعيي مما كنت أعرف. وصلت رسالة السلطة كاملة، لكنها ليست الرسالة الوحيدة.
في الندوة، سأل أندرو مار عن المقالات المفضلة في كتاب علاء، فاختارت سناء مقاله "صورة للناشط خارج محبسه"، وقرأت مقطعاً منه: "أنا في السجن سعياً من السلطة إلى أن تجعل منا عبرة. فلنكن عبرة إذاً، ولكن بإرادتنا..". "لن يقيد الأقوياء، ويصيغ هوامش الحرية والعدل، ويحدّد مساحات الجمال وإمكانات العيش المشترك، إلا ضعفاء تمسّكوا بالانتصار للمعنى، حتى بعد الهزيمة".