كيف تعمل الدكتاتوريات؟ .. ترسُّخ السلطة وانهيارها
يقدم كتاب "كيف تعمل الديكتاتوريات؟ السلطة وترسيخها وانهيارها" (الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2021)، دراسةً تحليليةً علميةً عميقةً للكيفيات التي تعمل بها الأنظمة الديكتاتورية، والطرق التي تستولي بواسطتها على السلطة، والسبل التي تتبعها لإدارتها والمحافظة عليها، إضافة إلى الكيفيات والظروف المؤدّية إلى انهيارها، حيث يقلل مؤلفو الكتاب الثلاثة، باربرا غيدس وجوزيف رايت وإيريكا فرانتز، من أهمية الدراسات القائمة على الخبرة المحلية المثيرة للإعجاب، باعتبارها تفتقر إلى "الأدلة"، فيما يستندون في دراستهم إلى جهود وأعمال فريق بحثي مُتخصّص، امتدت عدة سنوات، تمكّن خلالها من الوصول إلى كمٍّ هائلٍ من المعلومات والبيانات لأكثر من 280 نظاماً ديكتاتورياً تولت السلطة بعد الحرب العالمية الثانية وصولاً إلى عام 2010، وأخضعه المؤلفون إلى دراسة تحليلية أكاديمية، وخرجوا منه بنتائج مدعومة بأرقام وإحصاءات وجداول بيانية شديدة الأهمية.
ويكتسب الكتاب الذي ترجمه عبد الرحمن عياش أهمية كبيرة، ليس من ناحية تناوله الديكتاتوريات والطغاة فحسب، ولكن من ناحية توقيته أيضاً، حيث عزّز الطغاة في السنوات الأخيرة قبضتهم على عدد من الدول، وخصوصا دولنا العربية، فيما شهدت بعض النظم الديمقراطية في العالم وصول قادة من أصحاب العقليات الاستبدادية إلى الحكم وصعود حركات مؤدّية لهم.
عملية صنع القرار الديكتاتورية غالباً ما تحدُث في الظلام، في الوقت الذي تُصنع فيه السياسات في الدول الديمقراطية بشفافية
ويتّضح من الكتاب أن الأنظمة الديكتاتورية، وحتى الأكثر قمعية فيها، تتصرّف وفق أنماط معروفة، ومع ذلك يكتسي الكتاب أهمية من المهمة التي يتصدى لها في تقديم فهم لطبيعة الأنظمة الديكتاتورية، وما يثيره من تساؤلات حولها، إلى جانب إسهامه في فتح آفاق التفكير والنظر في مشكلات بلداننا العربية، التي يقبع معظمها تحت نير أنظمة ديكتاتورية منذ عقود طويلة.
صعوبة فهم الديكتاتوريات
صعوبات كثيرة تعيق دراسة الديكتاتوريات وفهمها، الأمر الذي جعل معظم التحليلات الأكاديمية، التي درست كيفية عمل الحكومات، تركز على الدول الديمقراطية، خصوصا وأن الأنظمة الاستبدادية تقيد المعلومات عن نفسها. وبالتالي، فإن ما نعرفه عن عملية صنع القرار في الديكتاتوريات أقلّ كثيراً مما نعرفه عن نظيرتها في الدول الديمقراطية. وما يعقّد الأمر أكثر أن الدول الديكتاتورية لا تختلف فقط عن الديمقراطيات، لكنها تختلف أيضاً عن بعضها بعضا، حيث يسود عدم التجانس بينها واختلافها الشديد في طرائق صنع القرار فيها، وكيفية اختيار قادتها، وأي مجموعات تؤثر في هذه القرارات، ومن يستفيد من قراراتها. ولهذا الاختلاف أثره في التعامل مع المواطنين، وفي الصراعات الدولية. يضاف إلى ذلك أن عملية صنع القرار الديكتاتورية غالباً ما تحدث في الظلام، في الوقت الذي تُصنع فيه السياسات في الدول الديمقراطية بشفافية نسبية. وغالباً ما تتخذ المجموعات النخبوية الصغيرة في الأنظمة الديكتاتورية قراراتها في سياقاتٍ غير رسمية، فيما يكون أعضاء مجلس الوزراء منفذي القرارات لا صانعيها. أما الأنظمة الديمقراطية فتتيح بيانات كثيرة عن آليات عملها، ما يسهل من مهمة الباحثين. كما أن الديكتاتوريات لا تنشر، من جانبها، بياناتٍ أقلّ فحسب، لكن حتى ما تنشره قد يكون غير دقيق بشكل متعمّد. لذلك يرى مؤلفو الكتاب أنه على الرغم من أن لدينا نظريات عديدة مثيرة عن الديكتاتوريات، لا يقف إلا أقلها على أرضٍ صلبة في الواقع، إلا أننا لا نعرف الكثير عن السبب وراء قدرة بعض الديكتاتوريات على تأسيس حكوماتٍ مستقرّة، في حين تعاني بعضها توترات مستمرّة، أو لماذا تقرّر دول منها بناء مؤسسات سياسية ذات وجه ديمقراطي، وترفض ذلك أخرى، أو لماذا توزّع بعضها الثروات على الشعب، ويحتفظ بعضها الآخر بمقدّرات الدولة في أيدي حفنةٍ صغيرةٍ من داعمي النظام، أو لماذا تعيش ديكتاتوريات عشرات السنين وتنهار أخرى في غضون عام أو اثنين؟ باختصار، نحن لا نعلم إلا القليل عن الديكتاتوريات، وكيف تعمل، أو لماذا تفشل وتنهار أحياناً؟ ومن أجل تشريح الديكتاتورية، يُعرّف مؤلفو الكتاب الأنظمة الاستبدادية بأنها لا تحدد فيها الانتخابات من الذي يقود البلاد، أو هي التي لا يغير فيها القادة المنتخبون ديمقراطياً قواعد اللعبة، بينما يقضون على كل فرص الآخرين لمنافستهم.
ويجترح المؤلفون مفهوم "جماعة السيطرة"، للإشارة إلى المجموعة الصغيرة التي تطيح النظام القائم، وتستولي على السلطة، مطلقة إشارة البدء للديكتاتورية، وكذلك إلى القاعدة المنظمة الداعمة لها، ومن ثمّ يتتبع الكتاب تسلسل التحدّيات التي تواجه النخب الديكتاتورية، بدءاً من مرحلة التأسيس للدكتاتورية والاستيلاء على السلطة، مروراً بتقوية النخب وتوسيع مجال السيطرة على المجتمع وتنفيذ السياسات، ووصولاً إلى مرحلة الانهيار والسقوط.
نسبة 45% من ديكتاتوريات ما بعد الحرب العالمية الثانية جاءت نتيجة انقلابات عسكرية قام بها ضباط في الجيش
ونعثر في الكتاب على بعض الحقائق بشأن كيفية تشكل الديكتاتوريات، وما يحدُث مباشرة بعد الاستيلاء على السلطة، مع توضيح الأساليب المختلفة للوصول إليها، وأولى الحقائق الكبرى أن 45% من ديكتاتوريات ما بعد الحرب العالمية الثانية جاءت نتيجة انقلابات عسكرية قام بها ضباط في الجيش، مثل انقلاب عام 1963 في سورية الذي أفضى إلى انقلاب 1970 وقيام ديكتاتورية آل الأسد، والانقلابات التي حدثت في مصر والعراق واليمن وتشيلي وكمبوديا وأفغانستان وبوروندي والكونغو وسواها. لكن الديكتاتوريات يمكن أن تصل إلى السلطة أيضاً، عندما تدعم قوى الاحتلال والقوى الأجنبية حاكماً غير منتخب أو عندما تغير الأحزاب المنتخبة القواعد لمنع إجراء انتخابات حرّة، وهي لا تخرج بشكل عام من الحركات والانتفاضات الشعبية.
الجيوش والأحزاب
يتعامل مؤلفو الكتاب مع الجيش باعتباره جماعة مصالح وفاعلاً سياسياً منظّماً في حدّ ذاته، لكن ضباط الجيش، خلاف الفاعلين السياسيين، لا يمثّلون مصالح مجتمعة بعينها، وبالتالي نادراً ما تدافع الانقلابات عن مصالح النخب الاقتصادية، ذلك أن انقلابات عسكرية عديدة ناتجة عن مظالم الضباط والقادة العسكريين وأحقادهم، وخصوصاً الذين استبعدوا من الترقية وسوى ذلك، مع أن القيام بانقلاب عسكري لا يتطلب متآمرين كثيرين. ويبرز دور الجيوش والأحزاب السياسية بوصفها جماعات السيطرة التي يمكنها الاستيلاء على السلطة. لكن على الرغم من خبرة هذه الجماعات المهنية، إلا أنها، في أحيان كثيرة، لا تكون لديها خطط مفصلة لكيفية إدارة السلطة التي استولت عليها. لذلك يواجه طغاةٌ كثيرون صعوبات في ترسيخ حكمهم، وبالتالي على الديكتاتور وجماعته الموازنة بين التعاون والصراع بمجرّد الاستيلاء على السلطة، بغية إنشاء قاعدة سياسية يرتكز عليها حكمهم، والحفاظ على ولاء مؤيديهم وأنصارهم من خلال منحهم منافع كافية لضمان ولائهم، وذلك عبر تقديم الديكتاتور تدفقاً متواصلاً من المنافع لمن حوله، والوعود وحدها لا تكفي، لأن وعوده ليست موضع ثقة، لذلك يتمّ تأمين المنافع عن طريق تفويض السلطة والمحسوبية أو عن طريق إعادة توزيع الموارد. ويلجأ بعض الطغاة إلى تأسيس أحزاب سياسية، من أجل ترسيخ الحكم الديكتاتوري بعد الاستيلاء على السلطة، والأمثلة كثيرة في هذا المجال، وذلك ضمن استراتيجية الحفاظ على السلطة وحمايتها من الانهيار، لأن الغاية تصب في مصلحة إطالة حكم الديكتاتور، حيث يجد مؤلفو الكتاب أن الأنظمة الاستبدادية التي تدبرها أحزاب سياسية مهيمنة تستمر ضعفي مدة الأنظمة التي لا تديرها تلك الأحزاب.
وتمثل الأحزاب وسيلة فعالة لتنظيم داعمي النظام الحاكم، ولتحويل توزيع المنافع عليهم وجمع المعلومات منهم، حيث تقوم أحزاب الأنظمة الديكتاتورية بعمليات تعبئة المجتمع وتزويد المواطنين بالمنافع والمكاسب والعطاءات، وبصناعة تبعية تشجّع الدعم الشعبي وتنمّي الانتهازية، بحيث يغدو الانتساب إلى حزب الديكتاتور طريقاً للحصول على الامتيازات والتعليم والوظائف والسفر، وضامناً لموالاة أغلب أفراد المجتمع، أو على الأقل جعلهم صامتين وقانعين، ويعتمدون على المحسوبية التي تفضي إلى ملء صفوف الحزب بانتهازيين وبوصوليين لا همّ لهم سوى الحصول على منافع ملموسة وعلى حساب الآخرين.
الأنظمة الاستبدادية التي تديرها أحزاب سياسية مهيمنة تستمر ضعفي مدة الأنظمة التي تديرها أحزاب
ويبقى السؤال عن أسباب استقرار بعض الأنظمة الديكتاتورية محيراً، وخصوصا النظام الحاكم في جمهورية الصين الشعبية، وهي أهم دولة استبدادية، لم تستمر إلى يومنا هذا فحسب، بل ازدهرت من خلال التكيف والتأقلم مع الاستبداد، حيث يحاول مؤلفو الكتاب تقديم تفسيراتٍ لأسباب استقرار النظام الاستبدادي في الصين الذي يحكمه حزب شيوعي مهيمن، فيما فشلت الأحزاب الشيوعية الأخرى في العالم وانهار معظمها، وبالتالي تبرز أسئلة عديدة حول تمكّن الحزب الشيوعي الصيني من إعادة صياغة العلاقة بين الرأسمالية والمجتمع، وامتلاكه القدرة على تغيير مسار الصين الشيوعية باتجاه فتح الاقتصاد مع الإبقاء على إغلاق النظام السياسي، الأمر الذي يجده مؤلفو الكتاب في الدور الهام الذي لعبته القواعد والمؤسسات غير الرسمية، من خلال ضمان الحكم الرشيد والنمو الاقتصادي، مع الحفاظ على سيطرة الحزب على المجتمع، حيث سمح هذا التوازن الدقيق للحزب بتغيير المسار دون زعزعة استقرار النظام.
الانتخابات المزوّرة
في معرض الإجابة على سؤال أهمية إجراء انتخابات دورية بالنسبة إلى المستبدّين، على الرغم من أنها مزوّرة ومعروفة النتائج سلفاً، يرى مؤلفو الكتاب أنها مفيدة للمستبدّين، ليس لأنها توفر لهم غطاءً شرعياً فحسب، بل كونها توفر لهم طريقة لمراقبة مؤسّساتهم وأجهزتهم الخاصة وامتحان قدراتها، ومراقبة رعاياهم كذلك. كما أنها تساعد على ردع الانشقاقات في النخبة التي تمثل أخطر تهديد لبقاء الديكتاتور ونظامه. وتظهر الانتخابات أيضاً مدى سيطرة الديكتاتور على الموارد اللازمة للتشبث بالسلطة، وقدرته على تعبئة الناس وإثبات لشبكات الولاء على نطاق الدولة، حيث تكشف انتخابات الهيئات التشريعية والهيئات المحلية كفاءة صغار مسؤولي الحزب، فيما يكشف الإقبال المتدنّي عدم قدرة القادة المحليين على تعبئة الناس لصالحه. ولا يقتصر دور الهيئات التشريعية على وضع القوانين، بل يتجسّد دورها الأساسي في تقسيم المكاسب غير المشروعة وتوزيعها على الموالين، فضلاً عن أن الانتخابات تساعد على حماية الديكتاتوريات من خلال توفير وسائل المراقبة الدورية لرصد سلوك المسؤولين وعامة الناس. ويلجأ المستبدّون إلى اتباع طرق مختلفة من أجل الحفاظ على بقاء أنظمتهم، وهم لا يعتمدون فقط على القمع والرقابة والمحسوبية، بل على الملاحقات القضائية وتخويف العاملين في وسائل الإعلام، وإعاقة عمل منظمات المجتمع المدني، واستخدام الأغلبية البرلمانية لتمرير قوانين ودساتير جديدة وسوى ذلك.
الانهيار والسقوط
يتوصّل مؤلفو الكتاب إلى أن الانقلابات والانتخابات والانتفاضات الشعبية هي أكثر الطرق شيوعاً لإنهاء الديكتاتوريات، فحوالي ثلث الأنظمة الديكتاتورية تنتهي بانقلاب عسكري، فيما ينتهي نحو ربعها بانتخابات حرّة. ولكن في بعض الأحيان ينهار كل شيء مع الصدمات الخارجية، مثل الأزمات الاقتصادية العالمية والكوارث الطبيعية وموت الديكتاتور. وغالباً ما تُسَرِّع الأزمات الاقتصادية من سقوط أنظمة الاستبداد، لكن شبكات المحسوبية والعملاء يمكن أن تدعم الطغاة في أثناء سقوطهم، غير أنه، في نهاية الأمر، لا يمكن للمحسوبية والنفوذ فعل الكثير، حيث يبرز الاتحاد السوفييتي بوصفه مثالاً بارزاً على أن تدهور الاقتصاد، والتصورات الخاطئة للإصلاح، يمكن أن تؤدّي إلى انهيار سريع وكارثي.