كيف استثمرت روسيا احتجاجات كازاخستان لتعزّز قبضتها في آسيا الوسطى؟
شهدت جمهورية كازاخستان، كبرى جمهوريات آسيا الوسطى، مطلع شهر كانون الثاني/ يناير 2022، موجة احتجاجاتٍ واسعة بدأت في منطقة جاناوزين، غرب البلاد، ضد قرار الحكومة رفع أسعار الغاز النفطي المسال المستخدم في قيادة السيارات، قبل أن تتوسّع رقعة المظاهرات لتشمل مناطق أخرى، من ضمنها ألم آتا، العاصمة الاقتصادية والتاريخية للبلاد. وقد أسفرت المواجهات عن سقوط عشرات القتلى (قدّرتهم مصادر بأكثر من 200)، وخراب كبير لحق منشآت عامة ومؤسسات حكومية. وقد استنجد الرئيس الكازاخي، قاسم جومارت توكاييف، بمنظمة "معاهدة الأمن الجماعي"، التي أرسلت على الفور قوة عسكرية قوامها نحو ألفَي جندي، معظمهم من روسيا، للمساعدة في إعادة فرض الأمن في البلاد.
أسباب الاحتجاجات
مثّلت الاحتجاجات، باتساعها وعنفها، مفاجأة للمهتمين بشؤون المنطقة؛ نظرًا إلى أن كازاخستان ظلت، بعكس جمهوريات آسيا الوسطى الأخرى، في منأىً عن أي اضطراباتٍ منذ إنشاء الدولة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، وتولي أمين عام الحزب الشيوعي فيها، نور سلطان نزارباييف، مقاليد الرئاسة، حتى تنازله عنها عام 2019. وتعدّ كازاخستان أغنى دول آسيا الوسطى بثرواتها الطبيعية، ومع أنها أكبر دولة حبيسة في العالم (مساحتها نحو 2.7 مليون كيلومتر مربع)؛ إذ لا تملك منافذ على بحار مفتوحة، فإنها تتمتّع بثرواتٍ طبيعية كبيرة. وإلى جانب أنها أكبر منتج لليورانيوم، فهي تنتج نحو 40% من كل اليورانيوم المستخدم في العالم، فإنها تملك احتياطيًا كبيرًا من النفط أيضًا يقدّر بنحو 30 مليار برميل، وهي تنتج نحو 1.6 مليون برميل يوميًا تصدر منها 1.1 مليون برميل. وتعدّ كازاخستان من أبرز أعضاء تجمع "أوبك بلس" OPEC +، وهو تحالفٌ نشأ عام 2016 بين منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) ودول منتجة من خارجها بهدف ضبط إنتاج النفط وأسعاره. ويمثّل النفط نحو 20% من الناتج الإجمالي القومي لكازاخستان، وأكثر من نصف دخلها من العملة الصعبة. وتتوفر كازاخستان أيضًا على كمياتٍ كبيرةٍ من المنغنيز والحديد والكروم والفحم؛ فهي تعتبر تاسع أكبر مصدّر للفحم في العالم، وتحتل المرتبة 12 في إنتاج الغاز الطبيعي، وفقًا لبيانات وكالة الطاقة الدولية، لعام 2018.
كشفت الاحتجاجات عن وجود صراع مكتوم على السلطة بين الرئيس الحالي توكاييف وعائلة الرئيس السابق نزارباييف
وعلى الرغم من غنى البلاد بالموارد الطبيعية، وعدد سكانها المنخفض نسبيًا قياسًا على مساحتها (نحو 19 مليون نسمة)، فإنّها تعاني مشكلاتٍ اقتصادية وأوضاعًا معيشية صعبة، ويرزح نحو 15% من السكان تحت خط الفقر. ويعود ذلك إلى السياسات الاقتصادية الفاشلة للحكم الفردي الطويل لنزارباييف، وسيطرة أوليغاركيا نشأت حول عائلة الرئيس السابق وارتبطت بها. وكانت كازاخستان، مثل بقية الدول الريعية التي تعتمد على تصدير النفط، قد تأثّرت بشدة بانخفاض أسعاره عام 2014. وما إن بدأت تتعافى عام 2019، حتى ضربت جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد - 19) بتداعياتها الصحية والاقتصادية. ونتيجة كل هذه العوامل، بدأت العملة الوطنية (تينغ) في الانحدار، وأخذت تتآكل معها القدرة الشرائية لعامّة الناس، وقد تزامن ذلك مع تفاقم أزمة ارتفاع أسعار الغذاء العالمية الناجمة عن عوامل بيئية وانقطاع سلاسل التوريد.
صراع مكتوم على السلطة
وعلى الرغم من ابتعاد الرئيس السابق نزارباييف عن صدارة المشهد، بعد أن أطلق عليه رسميًا لقب "زعيم الأمة"، فإنه ظل يتمتع بنفوذ كبير، بينما استمرّت الأوليغاركيا المرتبطة بحكمه في الهيمنة على مقدّرات البلاد. ويفسّر هذا اتجاه الرئيس توكاييف إلى إقالة صهرَي الرئيس السابق من منصبيهما على رأس شركتي الغاز والنفط الوطنيتين KazTransOil وQazaqGaz، بعد أن نادت الجماهير الغاضبة بطرد "الرجل العجوز" وعائلته المهيمنة على ثروات البلاد، في إشارة إلى الرئيس السابق الذي يبلغ 81 عامًا. وقد جرت أشدّ الاحتجاجات قوة وعنفًا في مدينة ألم آتا، وهي العاصمة السابقة للبلاد، حيث أقدم المحتجون على إسقاط تمثال للرئيس السابق. ويعتقد أن المدينة تأثرت اقتصاديًا بشدّة، بعد أن جرى نقل العاصمة إلى أستانا عام 1997، حيث أنفق الرئيس السابق مبالغ طائلة لنقل العاصمة، والتي أطلق عليها لاحقًا اسم نور سلطان.
وقد كشفت الاحتجاجات عن وجود صراع مكتوم على السلطة بين الرئيس الحالي توكاييف وعائلة الرئيس السابق نزارباييف، حيث بادر الرئيس الحالي إلى إصدار أوامر باعتقال قائد جهاز الأمن السابق القريب من عائلة الرئيس السابق، بتهمة التدبير لمحاولة انقلابية. وكانت الشكوك ثارت حول ولاء أجهزة الأمن، أو جزء منها على الأقل، لسلطة الرئيس توكاييف، بعد أن امتنعت وحداتٌ أمنية عن الدفاع عن منشآت حكومية في وجه الاحتجاجات الغاضبة، بينما انسحب بعضها من منشآت أخرى، في حين يبدو أنها محاولة لتأجيج الوضع لإضعاف سلطة الرئيس الحالي وتعزيز مواقعها في السلطة. بالطريقة نفسها تقريبًا، عمد الرئيس الحالي إلى استغلال الاحتجاجات للتخلّص من هيمنة نظام الرئيس السابق وعائلته على أجهزة الأمن وثروات البلاد.
بقيت معاهدة الأمن الجماعي على الورق طوال التسعينيات، نتيجة ضعف روسيا، وانحسار دورها في عهد يلتسن
الاستعانة بالخارج
بعد اتضاح عجزه عن مواجهة أسوأ موجة احتجاجاتٍ تشهدها البلاد؛ إذ لم تنفع الإجراءات التي اتخذها لتهدئة المحتجين، بما في ذلك إقالة الحكومة وخفض أسعار الغاز، وإطاحة جزء من حاشية الرئيس السابق، حيث فقد سبعة من الوزراء المحسوبين عليه مناصبهم في التشكيلة الحكومية الجديدة، لجأ الرئيس توكاييف إلى طلب العون من منظمة معاهدة الأمن الجماعي، بقيادة روسيا.
تأسّست منظمة معاهدة الأمن الجماعي عام 1992، لكنها بقيت معاهدةً على الورق طوال فترة التسعينيات، نتيجة ضعف روسيا، وانحسار دورها في عهد الرئيس بوريس يلتسن، ثم تورّطها في حربَي الشيشان الأولى (1996)، والثانية (1999). بعد وصوله إلى الحكم، أعاد الرئيس فلاديمير بوتين إحياء المعاهدة عام 2002 في محاولةٍ منه لإبقاء جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق في فلك روسيا. وقد اتخذت المعاهدة شكل اتفاقية دفاعية، وحصلت على اعترافٍ من الأمم المتحدة باعتبارها قوة حفظ سلام إقليمية عام 2004. وتضم المعاهدة حاليًا ستّ دول، هي روسيا وكازاخستان وطاجيكستان وقيرغيزستان وأرمينيا وبيلاروسيا. وقد انسحبت منها جورجيا وأذربيجان وأوزبكستان عام 1999. وتستند المعاهدة إلى مبدأ الأمن الجماعي، وتلتزم بالدفاع عن أعضائها ضد أي تهديد خارجي، وهو ما حدا بالرئيس الكازاخي توكاييف إلى الحديث عن تهديد إرهابي يواجه البلاد لتبرير استعانته بالمنظمة التي ليس من مهماتها بموجب ميثاق التأسيس التدخل لقمع احتجاجات داخلية أو تهديدات لأنظمة الحكم في الدول الأعضاء. بناء عليه، سارعت روسيا إلى الاستجابة لطلب الرئيس وأرسلت قواتها للمساعدة في تطويق الاحتجاجات.
دوافع التدخل الروسي
حاول الرئيس السابق، نزارباييف، على مدى ثلاثة عقود من حكمه، التملص من التبعية المطلقة لموسكو، عبر محاولات إقامة علاقات متوازنة مع القوى الرئيسة في المنطقة والعالم. فمن جهةٍ، سمح لروسيا باستئجار قاعدة "بايكانور" الفضائية، والتي ما زالت أكبر منصّة إطلاق في العالم بعد حوالي 60 عامًا من انطلاق أول رائد فضاء سوفياتي منها (يوري غاغارين). في الوقت نفسه، عزّز علاقاته بالصين، القوة الاقتصادية والسياسية الصاعدة على حدوده الشرقية، والتي تنظر إلى كازاخستان باعتبارها حلقة أساسية في مشروع الحزام والطريق. وأقام نزارباييف علاقات عمل مع الدول الغربية، حيث تعدّ شركاتها المستثمر الأكبر في قطاع الطاقة الكازاخي. وقد أدّت شركتا إكسون موبيل وشيفرون الأميركيتان وإيني الإيطالية وتوتال الفرنسية دورًا كبيرًا في تطوير قطاع النفط والغاز في كازاخستان، عبر ضخّ استثمارات تقدَّر بمليارات الدولارات على مدى العقدين الأخيرين؛ ما ساعد في تحويل كازاخستان إلى لاعبٍ مهم في سوق الطاقة العالمية. حاول نزارباييف أن يطور علاقاته بتركيا أيضًا من خلال مشترياته من السلاح التركي، خصوصا الطائرات المسيّرة.
تأثير روسيا في سياسات كازاخستان الخارجية سيكون أكبر من أيّ وقت مضى؛ إذ سوف يستغل بوتين، على الأرجح، تدخّله العسكري
لكن الوضع يوشك الآن أن يتغير، فعلى الرغم من محاولات الرئيس توكاييف توجيه رسائل تطمين على موقع تويتر إلى الشركات الغربية، بأنّ بلاده ستبقى مكانًا رحبًا للاستثمارات الأجنبية، الغربية خصوصًا، فمن الواضح الآن أن تأثير روسيا في سياسات كازاخستان الخارجية سيكون أكبر من أيّ وقت مضى؛ إذ سوف يستغل الرئيس بوتين، على الأرجح، تدخّله العسكري لإنقاذ نظام توكاييف، والوقوف إلى جانبه في الصراع الداخلي على السلطة ضد حاشية الرئيس السابق، لإبعاد كازاخستان عن ساحة المنافسة مع القوى الأخرى، خاصة الصين وتركيا، والعمل على ربطها ربطًا أقوى بروسيا.
يفسّر هذا جزئيًا مسارعة روسيا إلى اغتنام أزمة الاحتجاجات، وتلبية طلب المساعدة الذي تقدّم به الرئيس توكاييف إلى قادة الدول الأعضاء في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، بعد أربعة أيام من اندلاع الأزمة. وقد أصدرت المنظمة بيانًا، جاء فيه أنّ "هدف العملية هو حفظ السلام وحماية المنشآت الحكومية والاستراتيجية بما فيها خطوط نقل الغاز والقواعد العسكرية الروسية ومحطة الفضاء الروسية في بايكانور". وقد جرى "نشر أكثر من 2030 عسكريًا من روسيا وبيلاروسيا وأرمينيا وطاجيكستان وقرغيزستان، لتنفيذ مهمة حفظ السلام في كازاخستان"، وفقًا لأمين عام المنظمة، ستانيسلاف زاس، الذي أشار أيضًا إلى أن قوات حفظ السلام التابعة للمنظمة، استخدمت خلال تنفيذها المهمة حوالي 250 قطعة عسكرية، نُقلت إلى هناك بوساطة أكثر من مائة طائرة.
من جهة أخرى، يشير التدخل الروسي السريع في أحداث كازاخستان إلى الأهمية الكبيرة التي توليها موسكو لجوارها الإقليمي، في آسيا الوسطى ومنطقة القوقاز خصوصًا، وإلى استعدادها لاتخاذ أي إجراء يحول دون خروجها من دائرة نفوذها، كما أشار الرئيس بوتين في مؤتمر القمة الذي عقدته منظمة معاهدة الأمن الجماعي افتراضيًا عشية قرارها التدخل في كازاخستان. ورغم أن كازاخستان ليست حلبة تنافس على النفوذ مع الغرب بل مع الصين وتركيا، وقد وقفت الأخيرة علنًا إلى جانب الرئيس توكاييف والنظام الحاكم، تميل روسيا إلى اعتبار أي احتجاجات في جوارها الإقليمي محاولات غربية لإقامة حكومات معادية لها؛ كما حصل في جورجيا وأوكرانيا، لتطويقها ودفعها إلى الانكفاء إلى داخل حدودها.
تبعث روسيا، بتدخّلها العسكري السريع في كازاخستان لقمع الحركة الاحتجاجية رسالة أنها لن تسمح بأيّ تغيير في المنطقة يتعارض مع مصالحها
تبعث روسيا، بتدخّلها العسكري السريع في كازاخستان لقمع الحركة الاحتجاجية، رسالة مفادها أنها لن تسمح بأيّ تغيير في المنطقة يتعارض مع مصالحها، وأنّ ما حصل على حدودها مع أوروبا لن يتكرّر في آسيا الوسطى أو القوقاز. هناك فشلت روسيا في منع سلسلة توسعات لحلف شمال الأطلسي (الناتو) ابتداء من عام 1999 لا لتضمّ، فقط، دولًا أوروبية شرقية، مثل رومانيا، والمجر، والتشيك، وغيرها، بل لتضم أيضًا دولًا سوفياتية سابقة مثل دول البلطيق، فضلًا عن محاولات الغرب الآن ضمّ أوكرانيا إليه. وهو ما عبّر عنه الرئيس بوتين بوضوح في تصريحاته التي أعقبت قمع انتفاضة كازاخستان؛ إذ تعهّد بحماية حلفائه ومنع حصول ثورات ملونة في جوار روسيا القريب.
والحقيقة أنّ المسألة في دول آسيا الوسطى لا تتعلق بالديمقراطية؛ فالصين تناهض الثورات والمطالب الديمقراطية، أما تركيا فلا تدعم عملية تغيير أنظمة الحكم دول الرابطة التركية مثل كازاخستان وأذربيجان وتركمانستان وأوزبكستان؛ إذ تحاول أن تبني علاقات ثقة مع الأنظمة القائمة في سياق التنافس على النفوذ مع روسيا في هذه الدول.
سوف تعمد روسيا، على الأرجح، من الآن فصاعدًا، إلى تحويل منظمة معاهدة التعاون الجماعي إلى أداة تدخّل رئيسة في منطقتَي القوقاز وآسيا الوسطى، وحتى على حدودها الغربية مع أوروبا، بعد أن نجحت في استخدامها هذا الشهر في كازاخستان أول مرة، منذ تأسيسها قبل ثلاثين عامًا في منع انهيار نظام حليف، وفي تجيير أزمته الداخلية لخدمة مصالحها الإقليمية، ومعركتها مع الغرب.