كوميديا الأسماء والمصطلحات

30 أكتوبر 2022
+ الخط -

في الضربة التي وجهتها إسرائيل، أخيراً، إلى مواقع عسكرية إيرانية متموضعة بالقرب من دمشق؛ لم يصدر ذلك التعقيب التقليدي الذي اعتدنا أن نسمعه في مثل هذه المناسبة؛ أن "قواتنا المسلحة الباسلة تحتفظ بحقّ الرد في الزمان والمكان المناسبين"، فقد أصبح من واجب المواطن السوري، على ما يبدو، أن يفهمها من تلقاء نفسه. وإذا كان أكثر من مواطن سوري مجتمعين في مكان ما، وسمعوا الخبر، لا بد أن يتساءل أحدهم: احتفظوا؟ فيردّ عليه الآخرون. طبعاً احتفظوا، "لكان معقولة ما يحتفظوا؟". ولم نسمع أياً من المصطلحات الأخرى، مثل تنظيم قواعد الاشتباك، وتحديد سَمت تقاطع النيران، وأننا أجبرنا الطائرات المعادية على الفرار، وعادت طائراتنا المقاتلة إلى قواعدها سالمة.

كان أهلنا، إذا رأوا ولداً حشرياً، يضع نفسه في مواقف أكبر منه بكثير، يقولون: شَخّاخ وينام في الوسط! ينطبق هذا المثل، إذا أردت الحقّ، على أهل الحُكم في الدول الصغيرة المتخلفة، مثل سورية، فلم تكن تمرّ نشرة أخبار واحدة لا يقول فيها المذيع إن وزير الخارجية السوري، فلاناً الفلاني، التقى نظيرَه الأميركي، وإن السيد الرئيس (الذي يقود عصابة حكم إجرامية ورثها عن والده رغم أنف الشعب)، تلقى برقيات تهنئة من ملوك ورؤساء عشرات الدول (يعدّدها لنا بالتفصيل الممل)، بمناسبة عيد الجيش العربي السوري الباسل، إلخ.

اخترع الإعلام السوري، خلال نصف القرن المنصرم، مصطلحاتٍ لا يمكن حصرها، منها الضرب بيد من حديد على يد مَن تسوّل له نفسه التلاعب بمقدّرات الشعب، ومن كثرة ما سمعنا هذه العبارة، أيام الانقلابات العسكرية، صرنا نتخيّل اليد المصنوعةَ من حديد مرتفعة في الهواء، وتحتها توجد عشرات الأيدي المتلجلجة الخائفة من ضربتها الماحقة، وكنّا نخاف عليها من الصدأ، فيما لو تأخّرت القطعات العسكرية في تفجير ثورة جديدة، من أجل إعادة الأمور إلى نصابها، وحراسة منجزات الشعب، ومحاربة التيارات التآمرية الرجعية المعادية لأمتنا المناضلة، وبماذا تتم هذه المحاربة؟ باليد الحديدية طبعاً..

أواسط الثمانينيات؛ بعدما تمكّن حافظ الأسد من القضاء على تمرّد حزب الطليعة المقاتلة، استقرّ له الحكم، وبدأت تظهر مصطلحاتٌ تدل على الاستقرار، مثل أرسى فلان الفلاني، عضو القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، الحجرَ الأساس لمشروع تنموي كبير، بتوجيه من القائد حافظ الأسد، باني سورية الحديثة، بطل الصمود والتصدّي، الذي قاد جيشنا الباسل في معركة تحرير الإرادة (بدلاً من تحرير الأراضي المحتلة)، وعمل على تحقيق التوازن الاستراتيجي مع العدو، وأدّت قيادته السفينةَ إلى تحطم أمواج المؤامرات العاتية على صخرة الصمود. وإذا سافر يستقبله رئيس الدولة المضيفة، وحواشيه، وعند انتهاء الزيارة يودّع بمثل استقبل به من حفاوة وتقدير.

فيما بعد، أيام الثورة السورية، أوجد أحدُ المحللين الاستراتيجيين مصطلح "كل شيء في هذه الفلاشة"، وكان يلوّح بالفلاشة أمام الكاميرا كما لو أنها تلك اليد الحديدية، واخترع الدكتور قدري جميل مصطلح "صارت ورانا"، وتفرّد المحلل الاستراتيجي خالد العبود بنظرية المربّعات، فإذا وجهتْ إليه المذيعة سؤالاً بديهياً، يقول لها: سؤالك، سيدتي، يعيدنا إلى المربع الأول، بينما نحن الآن في مربع زيارة وزير الدفاع الروسي لدمشق، التي لم تكن للنزهة في ربوع الغوطة الغنّاء، أو إيصال تحيات الرئيس بوتين إلى بشار الأسد، وإنما جاء ليقول له: واحد تنين تلاتة. والرئيس يردّ عليه: توكلوا على الله.

وجاء البرلماني محمد قبنض باستراتيجية مكافحة الإرهاب بالطبل والزمر. وكانت خاتمة المطاف بتوصّل الأستاذ شعبان برّي إلى ابتكار جغرافي جديد، أن محافظة الساحل العربي (اللاذقية)، تستقبل ضيوفها بـ"أكوس الاستقبالات". وأما آخر مبتكرات "الشخاخ الذي ينام في الوسط"، فهي ما عبّر عنه مندوب سورية في الجمعية العمومية للأمم المتحدة بقوله إن "الجانب" السوري يؤيد "الجانب" الروسي، في الحرب الأوكرانية!

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...