كل هذا التشابه بين خوذتين

15 مارس 2022
+ الخط -

ليس الحديث هنا عن الخوذة الواقية التي يرتديها المهندسون والعمّال في المصانع وورش البناء، ولا عن التي يعتمرها رجال الدفاع المدني أو سائقو السيارات في سباق الراليات، وإنما عن خوذة العسكر الدارعين فوق أبراج الدبابات، وتلك التي يلبسها الجنود الراجلون في الخنادق الحصينة، أو في الأزقة الضيقة في أثناء الاقتحامات. أي أن الحديث حصراً عن الخوذة بدلالتها الردعية القاتلة في زمن الحرب، عن الصورة النمطية للجيوش النظامية الغازية، وعن مشهدية الاحتلال في كل عصر وأرض.
حضرت هذه الصور المستفزّة، والمشاهد المرعبة، من عمق خزانة الذاكرة الغضّة، في اليوم الأول للغزو الروسي الجاري فصولا في أوكرانيا، وانبعثت في الذهن، من ثمّ، أمثلة مشابهة لها حدثت، ولا تزال تحدُث، في أماكن أخرى من بلاد العرب المستباحة، سيما في فلسطين، حيث كثيراً ما امتلأت شاشات التلفزيون، في الماضي القريب، بمثيلاتٍ لها، بأرتالٍ مصفحة وجنود مدجّجين بالسلاح والأعتدة، بما في ذلك الخوذ المبطّنة، يقتحمون حي الشيخ جرّاح، أو يتربصون بالمتظاهرين قرب السياج الفاصل في قطاع غزة، وأيديهم على الزناد.
ليس في هذه الصور المتطابقة، أو في تلك المشاهد المتماثلة، ما يثير الدهشة، ويدعو إلى الاستغراب، فالحرب هي الحرب، وهذه من لوازمها، بل ومن شروطها الوجوبية، أيا كانت هوية الغزاة أو كان اسم البلاد المبتلاة بآفة الغزو، غير أن من الصادم حقا وجود كل هذا التشابه الغريب العجيب، ليس بين الخوذ، وإنما أيضا بين نص هذا الخطاب المواكب للعملية العسكرية الروسية وذاك الخطاب الدارج لدى الاحتلال الإسرائيلي، المترافق مع كل عدوانٍ في المدن الفلسطينية، تماماً على نحو ما كان عليه الحال المحفوظ عن ظهر قلب، في أثناء الاعتداءات على القدس وقطاع غزة.
وليس من المبالغة القول، على ضوء ما تردّده البروباغندا الروسية هذه الأيام، وما كان يرطن به الناطق باسم جيش "الدفاع"، أن خطاب أحدث احتلال جارٍ في أوكرانيا يكاد يكون نسخة طبق الأصل عن خطاب أقدم احتلال في فلسطين، وأن كليهما (بالروسية والعبرية) ينهلان مفرداتهما من قاموسٍ واحد، سواء لجهة تبرير دوافع الحرب "الاضطرارية" دائماً، أو لجهة تسويغ قصف الأحياء المدنية عن سبق قصدٍ وترصّد، ناهيك باستخدام الذرائع التضليلية ذاتها، وسرد المزاعم المكشوفة نفسها، لمنح عدوانٍ مبيتٍ قدراً ما من المشروعية.
من بين ما تدفق من بياناتٍ روسية كثيرة عن دوافع الغزو المتعثر، كان لافتاً زعم سادة الكرملين أن أوكرانيا مجرّد دولة ملفقة، صنعها لينين من العدم، وأنه لا وجود لشعبٍ في ذلك البلد (44 مليون مواطن)، لديهم هوية وطنية، ويتحدّثون لغة خاصة بهم. وعليه، تأتي هذه العملية الحربية لتصحيح أحد أخطاء التاريخ الفادحة، واسترداد الممتلكات الضائعة، الأمر الذي يعيد إلى الذاكرة المثخنة مزاعم صهيونية مشابهة، تُنكر وجود فلسطين كلياً، وتنفي وجود شعب فلسطيني (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض).
في الحديث، مثلاً، عن شبه جزيرة القرم المحتلة عام 2014، يستخدم القيصر الجديد المصطلحات الإسرائيلية ذاتها، الخاصة بمدينة القدس، من حيث اعتبارها مسألةً منتهية، وخارج أي مفاوضاتٍ محتملة. ولفرط تعلق الكرملين بشبه الجزيرة هذه التي كانت، ذات زمن مضى، جزءاً من السلطنة العثمانية، يضع اعتراف كييف بملكيتها لموسكو شرطاً مسبقاً، ولولا قليل لأكد أن فيها إرثاً يحاكي حائط المبكى منزلة دينية، وقال إنها قدس أقداس الإمبراطورية القيصرية.
لا يتوقف التماثل بين الخطابين، الديماغوجي الروسي والصهيوني المتغطرس، عند تسويغ دوافع الاحتلال والترافع عنه ببلاغة القوة الفائضة، وإنما يتماهى معه إلى التطابق، سواء لجهة التنصّل من الارتكابات الوحشية خلال العملية العسكرية الجارية منذ ثلاثة أسابيع، أو لجهة إلقاء التهمة على الإرهابيين والنازيين الجدد، وتحميلهم تبعات ما فعلوه بحق أنفسهم، تماماً على نحو ما درجت عليه الماكينة الدعائية الإسرائيلية طوال عهودها الموغلة في الجرائم الدامية، وتحميل الضحية أوزار المجازر التي سبّبتها لنفسها بنفسها.
وحدّث ولا حرج عن المفردات المشتركة بين أصحاب الخوذتين، الروسية والإسرائيلية، في جل ما يتصل بتشخيص عدويهما غير المشترك، مثل النازيين الجدد في أوكرانيا والمتطرّفين والإرهابيين في فلسطين، فضلاً عن شيطنة قيادة كل من الشعبين (عرفات هنا وزيلينسكي هناك) ناهيك بمصطلحات الدروع البشرية، والممرّات الآمنة، ونزع الأسلحة، وتدمير البنية التحتية العسكرية، وغير ذلك الكثير من اشتقاقات لغوية مماثلة.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي