كل الحيوانات متساوية
يحضر الروائي جورج أورويل (1903 – 1950) بمقاطع من روايته الصادمة "مزرعة الحيوانات" الصادرة في 1945، في فيلم "سيد جونز" (إنتاج 2019)، لمخرجته البولندية أنييسكا هولاند.
اسم الروائي هو أريك آرثر بلير، أما أورويل فاسم مستعار. والسيد آرثر، بطل الفيلم، هو نفسه صاحب المزرعة في الراوية، لأن أورويل أراد تكريم آرثر الحقيقي، ودوره في كشف ديكتاتورية الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين، وسياسته "القتل بالتجويع". والرواية، كما وصفها صاحبها، "نصّ أدبي في مواجهة ستالين"، وكتبها أورويل متأثراً بمقالات جونز عن المجاعة الكبرى في أوكرانيا عامي 1932 و1933.
إذاً، بطلنا هو الصحافي الويلزي الشاب، غاريث جونز (28 عاماً)، مستشار رئيس الوزراء البريطاني جورج لويد، وأول صحافي أجنبي يقابل هتلر على متن مروحية في أثناء صعوده لحكم ألمانيا. يقيل لويد مستشاره، ويزوده برسالة توصية للقيادة السوفييتية، حليفه الجديد، بسبب رغبة جونز في زيارة موسكو وإجراء مقابلة مع ستالين. يخفق جونز (قام بدوره جيمس نورتون) في إجراء المقابلة، لكن فضوله الصحافي يقوده إلى أوكرانيا بمغامرة قاسية، يبدأها بالهروب من العيون الكثيرة التي تراقبه وتلاحقه.
يدور في ذهن أورويل سؤال واحد: من أين يأتي ستالين بالأموال للمشاريع الصناعية الكبيرة التي يعلنها؟ ويأتيه الجواب بأن قمح أوكرانيا هو ذهب ستالين، ما سبّب ما عُرفت بمجاعة "الهولودومور"، التي تعني بالأوكرانية "القتل بالجوع"، والتي راح ضحيتها ملايين البشر، تراوح التقديرات بشأنها من خمسة ملايين إلى عشرة ملايين ضحية. هل استدعى ذهنكم شعار "الجوع أو الركوع" الذي رفعه نظام الأسد منذ 2011؟
اقتباسات الرواية التي يكتبها جورج أورويل (قام بدوره جوزيف ماويل) ترافقها تخيلات ورياح عاتية تصدرها طواحين هواء، تشبه تلك التي يريد بناءها الخنزير نابليون في المزرعة، رمزاً لسعيه المحموم والفاشل إلى تحديث البلاد.
يدور في ذهن أورويل سؤال: من أين يأتي ستالين بالأموال للمشاريع الصناعية الكبيرة التي يعلنها؟ ويأتيه الجواب: قمح أوكرانيا هو ذهب ستالين
ما يراه جونز ويعيشه خلال أيام في أوكرانيا، ويجسّده الفيلم باقتدار مخيف، مأساة تبلغ حد أن يأكل ثلاثة إخوة صغار قطعاً مشوية من لحم أخيهم الذي قضى جوعاً وبرداً. صور المجاعة تفوق الخيال، حيث نرى العراك بين البشر للفوز بروث الحيوانات ولحاء الشجر للتقوت عليها.
تُلقى جثة امرأة فوق عربةٍ تحمل جثثاً كثيرة، وفوق الجثث يوضع طفلها الصغير وهو يبكي.
ينشر جونز نصوصاً عمّا رآه في صحيفتي الغارديان وواشنطن بوست، فيكذبه مدير مكتب "نيويورك تايمز" في موسكو والتر دورانتي (قام بدوره بيتر سارسجارد)، وهو سيفوز لاحقاً بجائزة بوليتزر على ما كتبه من مديح لستالين وموسكو التي عاش فيها نحو 20 عاماً. ويصور الفيلم مواجهة بين جونز ودورانتي، يسأل الأخير الأول فيها: كم تقبض من ستالين؟
ويتجلى موقفه من ستالين أيضاً في مواجهة صحافية أخرى، يقول لها: "ستالين ليس كما تسمعين عنه، هذه ليست اشتراكية، إنها استغلال أبشع من الرأسمالية". تردّ عليه بأنها تفعل ذلك ليس من أجل ستالين، بل من أجل حركة التاريخ الذي لا يهتم بالأفراد.
المفارقة أن دورانتي فاز بالتكريم، فيما مات جونز بعد عامين من نشره مقالات المجاعة الأوكرانية، ووجدت جثته في الصين، بعد تحقيق كان يجريه في منغوليا الداخلية، وسجلت القضية ضد مجهول. وقال رئيس الوزراء البريطاني، جورج لويد، عن وفاته: "قتل بسبب تحقيقاته الصحافية. بالتأكيد، لقد أزعج بعض السلطات أنه يعرف الكثير".
أصوات تصرخ: "لا يوجد خبز.. نحن نموت"، فيما المرافق الرقيب الذي هرب جونز منه ينكر ذلك، ويصرّ، بعد القبض عليه، على أن يردّد معه: "لا توجد مجاعة، إنها مجرد شائعات". مرة ثانية، هل تذكّرتم شعار الإنكار "فشلت وخلصت" والعصافير تزقزق؟!
يرى أورويل أن ما كتبه في "مزرعة الحيوانات" هو "الضمير الأخلاقي للإنكليز"، وبالتالي ما كتبه جونز هو الضمير الأخلاقي الحقيقي للصحافة.
عرض الفيلم في مهرجان برلين السينمائي العام الفائت، ويعرض في صالات السينما هذه الأيام.