كلّ هذا الاهتمام الأميركي بتونس
تكثف، في الأيام الأخيرة، اهتمام الولايات المتحدة بتونس، سواء بزيارات مسؤولين منها لتونس أو تصريحاتهم، وزراء ومستشارين وأعضاء في الكونغرس، فضلاً عن كتابات كبريات الصحف عمّا تشهده البلاد منذ 25 يوليو/ تموز الماضي (إجراءات الرئيس قيس سعيّد). وتبدو التصريحات معتدلة، تؤكد أهمية استئناف المسار الديمقراطي البرلماني، وضرورة بلورة خريطة طريق تستجيب لتطلعات الشعب التونسي في الرخاء ومقاومة الفساد. هذا ظاهر التصريحات، ولا أحد يعلم ما دار في الجلسات المغلقة بين مسؤولي البلدين، فحتى رئاسة الجمهورية التي ليس لها من وسيلة اتصال سوى تصريحات الرئيس قيس سعيّد، للتلفزة الوطنية، أو ما يُنشر باقتضاب في صفحة الرئاسة في "فيسبوك"، لا تقدم مزيداً من التوضيحات. وذلك ما يترك خيال المعلقين، بمن فيهم الصحافيون، الأكثر اتزاناً وصرامةً، يجنح إلى بناء تصورات وافتراضات وسيناريوهات، أقرب أحياناً إلى التنجيم.
نشطت سوق الإشاعة في سياقٍ يتعطّش فيه الشعب "الشعبوي" لأفلام هي أقرب إلى السينما الهندية التي لا حاجز فيها بين الواقع والخيال، حتى في نسخه الأكثر غرائبية وسذاجة. ومع ذلك، يأخذ الناس مأخذ الجد تلك الأفلام التي توردها الصحافة التونسية اليومية: فرق كوماندوس أجنبية تتربص بالبلد، ومحاولات تسميم الرئيس أكثر من مرة، وصلت إلى حد محاولات اغتيال... إلخ. أحداث يلتصق بعضها ببعض بعنوة الخيال، لتصبح، في النهاية، مؤامرة. وقد أبدت حكومة ليبيا استياءها من هذه الكتابات، ويبدو أنّ الأمر طاول دولاً شقيقة أو صديقة.
تؤكد الولايات المتحدة، من خلال تصريحات مسؤولين، أهمية استعادة تونس مسارها الديمقراطي، ويشدّدون على الديمقراطية البرلمانية
ما الذي يثير اهتمام الأميركان بتونس أكثر من أي وقت مضى، وربما فاق حتى اهتمامهم إبّان الثورة التي حظيت بتبجيل كثير من الرئيس أوباما والكونغرس، عام 2011؟ يثار هذا الجدل حالياً على إثر الزيارة التي أدّاها وفد أميركي، نهاية الأسبوع الماضي، وسط حملةٍ يقودها أنصار قيس سعيّد، متحالفين، هذه المرّة، مع أحزاب اليسار ومنظّمات وطنية وجمعيات تحسب على هذه الأوساط بالمعنى الأيديولوجي، على غرار الاتحاد العام التونسي للشغل والمنظمة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وغيرهما من تشكيلاتٍ انخرطت، منذ 25 يوليو الماضي، في الدفاع عمّا تراه سيادة وطنية، إلى حد إغفال ما تراكم من مراجعات كبرى حلت بهذا المفهوم في ضوء العولمة التي خفضت من التصوّرات السيادوية، وجعلت المسائل السياسية وغيرها، على غرار الاقتصاد، متشابكة شديدة الترابط. استعادت هذه الأطراف سردية الإمبريالية والتدخل في الشؤون الداخلية، لاعتقادها أن الوفود الأميركية تحرص على إعادة البرلمان والضغط على الرئيس سعيّد حتى لا يُفكَّك حزب النهضة. لا أحد يدري دقة هذه التخمينات، مع أن الولايات المتحدة، من خلال تصريحات مسؤولين فيها زاروا تونس وآخرين لم يزوروها، تؤكد أهمية استعادة تونس مسارها الديمقراطي، ويشدّدون على الديمقراطية البرلمانية، ويعتبرون البرلمان حجر الزاوية في بناء الديمقراطية الفتية التونسية. يعتقد بعض أولئك أن الولايات المتحدة اتخذت من تونس ورشة لتجريب الإسلام السياسي وتلاؤمه مع الديمقراطية. وهذه فرضيات موغلة في التوهم، على اعتبار أن الإسلام السياسي قد حكم في أكثر من بلد في العالمين، العربي والإسلامي، ونتائجه معروفة لدى الولايات المتحدة مسبقاً.
في وسع التونسيين إذا أجمعوا على مصالحهم أن يكونوا أول من يدافع عن مصالح أميركا، والديمقراطية ليست مصلحة عليا
بعيداً عن هذه التأويلات، فإن الاهتمام المكثف بتونس نابع من مسائل جغرافية – استراتيجية، أكبر بكثير من الأبعاد الداخلية للمشهد السياسي، أو شعبوية قيس سعيّد، فقد صالحت الولايات المتحدة شعبويات كثيرة، بل دعمتها في أكثر من مكان. والمغرب العربي في شمال أفريقيا الذي لا تفصله عن أوروبا سوى أميال قليلة يمرّ باضطرابات غير مسبوقة: ليبيا التي تنهشها الحرب الأهلية من دون التغافل عن وجود قوى إقليمية على الأرض بعدّتها وعتادها، ومع أهمية تشكيل حكومة وحدة وطنية إلا أن لا شيء ينبئ بأنّ البلاد ذاهبة إلى انتخابات نهاية السنة الحالية، بل تؤكد مؤشّرات عديدة أن الاستقرار ما زال بعيد المنال. وعرفت الجزائر أيضاً، على الرغم من خفوت الحراك، انتخابات رئاسية وتشريعية ثبتت الوضع، لكن مؤقتاً، إذ تبدو البلاد هشّة سياسياً واجتماعياً، تسعى بعض القوى الإقليمية الى استثمار ذلك، وشكلت تصريحات إسرائيلية مؤشّراً دالاً. وقد أعلنت الجزائر قطعها العلاقات الديبلوماسية مع المغرب في أجواء من الصخب الدبلوماسي. وتطل البلدان الثلاثة على الصحراء الكبرى، حيث ترتع الجماعات الإرهابية المقاتلة من دون كلل أو ملل، على الرغم من الضربات التي تلقتها.
منطقة المغرب العربي التي تطل على أوروبا هي ذاتها التي تطل على أفريقيا وتشكل بوابتها الشمالية. تزحف الصين من البوابة الجنوبية صاعدة نحو الشمال، والولايات المتحدة لا تغفل هذه العامل. ولذلك تنظر إلى تونس، وشمال أفريقيا عموماً، من وجهة النظر هذه، بوابة اقتصادية سياسية تحديداً. ومع ذلك، لا يمكنها أن تنكر أنها تقف مع الديمقراطية الفتية في هذا البلد، وأن كل أشكال الانقلاب عليها سيضعها في موقف محرج. تذكّر الولايات المتحدة خصومها، التونسيين وغيرهم، بأنها قدمت للبلاد، بقطع النظر عمّن حكم خلال العشرية الفارطة، الكثير والمساعدات المالية والعسكرية، وكانت ضامناً تقريباً في كل القروض التي منحها صندوق النقد الدولي. لأميركا مصالح لا يمكن مطلقاً إغفالها. وفي وسع التونسيين إذا ما أجمعوا على مصالحهم أن يكونوا أول من يدافع عنها، والديمقراطية ليست مصلحة عليا.