كلّ من عليها خان

15 ابريل 2023
+ الخط -

بغير هذا المعيار لن تتحرر فلسطين... أقول ذلك للمتباكين على السياح الأجانب الذين زعمت إسرائيل أنهم كانوا "الضحايا" الوحيدين لعملية تل أبيب أخيرا.

وبصرف النظر عمّا إذا صدقت المزاعم الإسرائيلية، أو كانت من قبيل استدرار العطف العالمي، أحيلهم جميعاً على ذلك الكهل الخليلي الحكيم، الذي كان متحمّساً للصواريخ العراقية التي هدّد بإطلاقها صدّام حسين على إسرائيل إبّان حرب الخليج في 1991، حال بدء العدوان الثلاثيني على العراق، وعندما قال المذيع للكهل: وماذا لو سقطت الصواريخ على رؤوس فلسطينيين أيضاً، فأجاب: "لتسقط ... فالصواريخ لا تنقّي العدس".

كان هذا الكهل مستعدّاً لدفع الثمن من دمه، ودم أولاده، إن لزم الأمر، لقاء أن يرى الرعب في أعين المحتلين، وشاطره الرغبة تلك فلسطينيو الداخل جميعاً، بدليل زغاريد من نوافذهم كلما سقط صاروخ عراقي في إسرائيل، وكذا كان الأمر مع صواريخ حزب الله، أيضاً، في حروب لبنان، الأمر الذي حيّر الصهاينة وإعلامهم؛ وجعلهم يتساءلون عن طينة هؤلاء الذين يقبلون أن يكونوا "خسائر" جانبية على أيدي أشقائهم وحلفائهم، وهم محقّون في مثل هذه الحيرة، لأنهم لا يعرفون مبلغ الاحتقان الذي يفور في دم الفلسطيني الراسف في أغلال الاحتلال منذ عقود، وربما لأنهم لا يدركون، أيضاً، أن الجسد الفلسطيني نفسه استحال إلى قنبلة موقوتة لا تنتظر غير صاعق التفجير.

على هذا، لا يمكن النظر إلى السيّاح في إسرائيل بعيون البراءة، لأنهم يعلمون جيدًا أنهم قدموا إلى بلدٍ محتلّ لم يذعن شعبه للاحتلال بعد، ولم يرفع الراية البيضاء، ما يعني أنهم دخلوا "منطقة عمليات"، أو "منطقة تحرير" إن شئنا الدقّة، أي أنهم قبلوا مبدأ المجازفة بحياتهم، وليس من حقهم أن يلوموا أحداً غير أنفسهم، هذا إذا افترضنا أنهم غير متواطئين أصلاً مع المحتلّ، فأن تختار بلداً معيناً للسياحة، من دون كل بلدان الأرض، وأنت تعلم أنه بلد قائم على الاحتلال، فذلك يعني أنك إما نصير مباشر للمحتل ومعتقداته، وعندها ستصنّف، حتماً، في خانة العدوّ، وإما أنك تساهم بتعزيز اقتصاده بفضل ما تضخه من أموال في أسواقه تتحول لاحقاً إلى رصاص في صدور الشعب المحتلّ.

على النقيض من ذلك، كان حريّاً بهؤلاء السياح، إن كانوا صادقي النيات، أن يذهبوا إلى مشاهد أخرى لا تظهر على البروشورات السياحية، لكنها غير بعيدة عنهم، كان ينبغي أن يذهبوا إلى القرى المحاصرة، وحواجز الموت العسكرية، وإلى أزقّة الجوع، وسجون الإذلال. كان يجدر بهم أن يطمسوا كل حصيلتهم السياحية، ويستبدلوها بمعرفة واحدة لا أكثر، عن شعب ترك وحيداً ليقارع أعتى وأشرس احتلال عرفه العصر الحديث، لكن السياح أغمضوا أعينهم ومضوا إلى شواطئ تل أبيب ليتنعّموا بما يقدّمه لهم الاحتلال من مشاهد زائفة، غير مدركين أن السياحة نوع من الاحتلال أيضاً، إذا كانت تتم برعاية المحتلّ.

هكذا نفهم الأمر، مع أسفنا العميق لهذه الخسائر الجانبية، لكن على الجميع أن يعلم أن فلسطين كلها أصبحت "منطقة عمليات"، فكلّ من يقف إلى جانب الجندي الصهيوني، والتاجر الصهيوني، ومكاتب السياحة الصهيونية، وسائر أنشطة الاحتلال الصهيوني، فقد خان الشعب المحتل، وكل من يذهب مطبّعًا، فقد خان، وكل من يدمغ جوازه بتأشيرة إسرائيلية بذريعة "الصلاة في المسجد الأقصى"، فقد خان، وكل من يقيم سفارة له في تل أبيب فقد خان، وكلّ من عاد إليها ليقيم عليها سلطة في خدمة العدو، فقد خان، بل إن كل شجرة فلسطينية تطعم المحتل هي خائنة، وكل حجر يبني مستوطنةً فقد خان، على خلاف الدموع التي ذرفها سابقاً محتجّون عرب على إحراق أشجار المستوطنات الصهيونية بذريعة أنها أشجار نبتت في تراب فلسطين، متناسين أن المعركة هي معركة وجود مع محتلّ لن يغادر هذه الأرض إلا إذا جاع وعطش وأفلس، وتيقّن أن تكلفة الاحتلال أصبحت أغلى من تكلفة المكوث على هذه الأرض التي لن تتحرّر قبل أن تتطهّر من الخيانة.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.