"كسر عضم"

28 اغسطس 2022
+ الخط -

لئن كانت الدراما السورية تجذبني سابقاً لثقافتها، فقد بتّ، حاليّاً، أشدّ حرصاً على متابعتها، لفضولٍ يتعلّق بكيفية تناولها الأحداث المريرة الدائرة في بلادها منذ أزيد من عقد. وكما هو متوقع جاء معظم الأعمال ليتبنّى الرواية الرسمية، ويختزل المعارضة في تنظيم داعش وأضرابه من المليشيات العدمية الأخرى، غير أنّ مسلسل "كسر عضم" جاء مغايراً نسبيّاً؛ إذ شعرتُ أنّه الأقرب إلى التعبير عن الحالة النفسية الجمعيّة لشعبٍ مثقلٍ بتبعات حربٍ باتت أشبه بالحرب الأهلية، بعدما كانت نزاعاً أريدَ له أن يكون عسكريّاً بين النظام والمعارضة.

في هذا المسلسل الذي تبدو أحداثه من الخارج كأنّها صراعات تقليدية تنشأ حكماً نتيجة الحروب والأزمات، فتسحق المجتمع بالغلاء والضنك، وتُعلي من شأن الأنانية، والأثرة، وطمع تجار الحروب، غير أن التحوّلات التي تدور داخل العلاقات الإنسانية نفسها تلفت الانتباه، فالمتنفذون، الذين يمثلهم "أبو ريان" يصبحون في أجواء الحروب أشدّ شراسة وطمعًا وتجرّداً من القيم والمثل، إلى الحد الذي يغدو فيه تحييد الخصوم بالقتل أقصر طرق المنافسة، في مقاربةٍ إيحائيةٍ للحرب العسكرية الأخرى المشتعلة على تخوم المدن، فاستخدام السلاح يصبح مقبولاً داخل سوق التجارة، أيضاً، مثلما هو مشروعٌ على الجبهات، فالتاجر الخصم عند الغريم لا يقلّ خطرًا عن "العدو" العسكريّ القابع في الخندق المقابل. وفي أتون هذه المنافسة "المسلّحة"، لا بدّ من ضحايا لا ناقة لهم ولا جمل، وفي مقدمتهم المرأة التي يزداد هدر حقوقها، وتجريدها من أنوثتها واحترامها الشرقيّ المعهود، بينما يفقد الشباب أملهم بالمستقبل، ويجدون أنفسهم أمام خياريْن، تحييد المثل والمبادئ واللحاق بركب القطيع اللاهث خلف المال الأسود أو "الموت شرفاً".

غير أنّ أهم ما امتاز به المسلسل هو تلك "المراجعة" التي تشبه النقد الذاتي، في محاولةٍ لتحليل أسباب ما حدث في سورية، وهي مراجعة ترد في بعض الحوارات عرضًا، ومن أهمّها عبارة وردت على لسان إحدى الشخصيات: "لن تتغير النتائج أبدًا ما دمنا نسلك الطرق نفسها". وفي هذه العبارة إدانة غير صريحة لمنظومة السلطة الحاكمة ذاتها، التي يبدو أنها لن تغيّر من أساليب حكمها واستبدادها، وأدواتها. والأخيرة هي الأهمّ وفق ما يحاول هذا العمل توضيحه، فكثيراً ما وردت في المسلسل انتقادات تتخذ شكل الدعابات عن أجهزة الاستخبارات التي قوّضت الشخصية السورية، وأسكنتها في زنزانة رعبٍ متحرّكة.

لكن ما يؤخذ على "كسر عضم" أن أسلوب التحايل على الرقيب أخفق هذه المرّة، عندما تعمّد المخرج إظهار صور "الرئيس القائد" تزيّن صدر مكاتب المسؤولين الكبار، سيما الأكثر نزاهة منهم، الذين يظهرون بمظهر الساعين إلى كبح جماح الفساد، وتطهير البلاد من طغم العابثين والمتنفّذين، في رسالةٍ مبطّنة مفادها بأنّهم يسيرون على درب القائد ويأتمرون بأمره في هذا السعي المحمود، وهي مشاهد نقيضة لما ذكرنا عن المسالك والنتائج؛ لأنّ منظومة الأسباب، وفي مقدمتها "السيد الرئيس" كانت أهمّ محرّكات الأزمة، وستبقى كذلك ما دامت على هرم السلطة.

ربما نجح "كسر عضم" في تشخيص نتائج الكارثة السورية، لكنّه أخفق في تشخيص الأسباب حين حاول أن يعزوها إلى أدوات السلطة، وليس للسلطة نفسها، على غرار سائر المدافعين عن النظريّات الإيديولوجية، عندما يعزون الفشل إلى التطبيق، لا إلى النظرية ذاتها.

عموماً، كان يمكن أن يكون "كسر عضم" مستكملاً شروط النجاح، لو أنّه كسر عظم النظام، مثلما فعل مع الأدوات، لكن من الواضح أنّه خشي على "عضمه".

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.