كذبة مواجهة إيران وتوديع أحلام العدالة وحكم القانون
يبرز في كل ما يتعلق بمنطق المواجهة الدولية مع إيران خلل كبير، ما لم يكن فاضحاً. تتحدث أميركا بشكل متواصل عن ضرورة لجم إيران، لكنها أرسلت كاسحتي ألغام إلى منطقة البحر الأحمر لحماية ممرات الطاقة من تهديدات الحوثيين، ولم ترسل بوارج حربية، ما يعني أن الهدف هو الوقاية، وليس المواجهة. كذلك اجتمع الكونغرس، أخيراً، ليصدر قراراً غير ملزم يتهم فيه ذراع إيران الأبرز في المنطقة، حزب الله، باستخدام مرفأ بيروت للقيام بأنشطة إرهابية.
الصيغة المعنوية لمثل هذه القرارات تجعلها تبدو كأنها تشجيع لإيران على التمادي، أو بمثابة طمأنة لها على أن الأمور لن تسلك مساراً حربياً وتصعيديًّا، بل ستبقى عند حدود التنديد والإدانة. والإشارات التي خرجت من لقاء الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينت، توحي برغبة روسية في تحجيم الدور الإيراني في سورية بالتفاهم مع إسرائيل. وقد صدر تصريح عن بوتين، يعلن فيه عدم ممانعته استهداف إسرائيل المواقع الإيرانية في سورية بعد التنسيق مع القوات الروسية، بينما طالب، في الوقت نفسه، بعدم استهداف النظام السوري ورموزه. ولا يعني هذا التنسيق قيام جبهة روسية إسرائيلية عريضة ضد إيران في سورية، بقدر ما يشي بإبقاء الأمور على ما هي عليه، مع تعديلاتٍ موضعيةٍ في التمركز، الحركة وخريطة الوجود ليس إلّا. التنسيق المسبق يعني أنّ روسيا ستسمح لإسرائيل باستهداف ما تريد استهدافه، وما لا يشكل نسفاً للتحالف العميق بينها وبين الإيرانيين، والذي باتت المليشيات الإيرانية بموجبه بمثابة قوات المشاة الروسية التي تنفذ العمليات الميدانية على الأرض. وأعداد المليشيات في سورية، والمقدرة بحوالي ستين ألف مقاتل، تفيد بأنّ العلاقة بين الروس والإيرانيين جوهرية، ولا يمكن تفكيكها ببساطة، بل يتطلب الأمر قلباً للمعادلات التي قامت عليها، أو صفقة كبرى لا يبدو أنّها وصلت إلى المرحلة النهائية من النضج والتبلور.
أعداد المليشيات في سورية، والمقدرة بحوالي ستين ألف مقاتل، تفيد بأنّ العلاقة بين الروس والإيرانيين جوهرية، ولا يمكن تفكيكها ببساطة
المسارات القائمة حالياً تمهد لها عبر سلاسل متصلة من التصعيد المتوازن والموزون، سبق أن أظهرت إيران قدرة كبيرة على التعامل معه واختراقه. وكلّ اللعب على وتر التصعيد لا يكشف عن وجود قرار جدي بفتح معركة كسر عظم مع إيران، بل لا يكاد يخرُج عن منطق المناورات والغارات الوهمية.
تقول إسرائيل إنّها خصصت موازنة ضخمة لمشروع الحرب على إيران، والإدارة الأميركية تعلن أنّها ستتعاون مع مقتدى الصدر، الفائز في الانتخابات العراقية، لتقليص نفوذ إيران في العراق الذي يشكل منطقتها الحيوية، وذلك مع علمها أنّ الصدر ليس مناهضاً للنفوذ الإيراني، بل يقود خلافاً منظماً ومدروساً ومحدوداً معه، لا يمكن البناء عليه لتغيير المعادلات إلّا في حال قيام تحرك ميداني ضخم وجدي، فما يحدث في العراق ليس سوى بعثرة لخريطة النفوذ الإيرانية، وليس تفكيكاً لها، لكنّ الإدارة الأميركية تريد أن تبيع العالم وهم مواجهة إيران، عبر رجال إيران.
المشكلة الوحيدة مع إيران تكمن في تأثير سلوكها على أمن الطاقة وعلى سيولة التجارة والاقتصاد العالميين
بعد تقارب وجهات النظر بشأن إيران وخطرها بين الأميركيين والروس والأوروبيين، كيف يمكن لإيران أن تواجه؟ يرتبط الجواب بالمنطق الذي تنظر فيه كلّ هذه القوى إلى الخطر الإيراني. ولا يظهر واقع الحال تناقضاً مع إيران في ما يخص قيمها، لكنّ المشكلة الوحيدة معها تكمن في تأثير سلوكها على أمن الطاقة وعلى سيولة التجارة والاقتصاد العالميين. لجم إيران والمواجهة معها يقتصران على هذا البعد، لذا يمكن أن نتوقع حركة التصعيد الخلبي الذي ترتفع وتيرته في الآونة الأخيرة، وأن نؤكد أنّه لا يهدف إلى كسر النظام الايراني، بل إلى بلورة اتفاق معه يحدد خريطة نفوذه ويرسم معالمها بشكلٍ يمنعه من التأثير على مصالح القوى الكبرى. يُتوقع أن تُمنح إيران نفوذاً عميقاً في المنطقة بعد التسويات، لا تتخلى بموجبه عن مشاريعها الخارجية، بل تعدل وجهتها وطريقة حركتها.
في لبنان، على سبيل المثال، تكمن المشكلة مع حزب الله بالنسبة للمجتمع الدولي في سلاحه الصاروخي بعيد المدى، والذي يمكن أن يهدد أمن إسرائيل. يعني ذلك أنّه في حال تبلور اتفاق حول تسليم هذا السلاح أو القضاء عليه لن تكون هناك مشكلة في تسليم البلد لحزب الله. ومن نافل القول إنه لا يسيطر على لبنان بسلاحه الثقيل، وإنما بالسلاحين، العادي والمتوسط اللذين يستعملهما في غزواته واختراقاته مناطق المكونات الأخرى، وفرض وصايته المفتوحة على الأمن والاقتصاد.
يُتوقع أن تُمنح إيران نفوذاً عميقاً في المنطقة بعد التسويات، لا تتخلى بموجبه عن مشاريعها الخارجية
لا مشكلة دولية مع هذا العنوان الذي يمكن أن ينجز تحت سقف الوصاية الروسية المتوقعة على المنطقة، إذ ستتسلم إدارة شؤون الاتفاقات والالتزامات النفطية بعد ترسيم الحدود، وتضمن لجم قدرات حزب الله الصاروخية، مع الإبقاء على سلطته في الداخل تحت سقفها، بمعنى أنه يتحول إلى نوع من فرقة تدير مستعمرة لبنان الروسية. والمنطق الذي يستتبع مثل هذا المشهد يعني أن المنطقة لن تكون آيلة لحكم العدالة وسيادة القانون، بل ستمحو كلّ المسارات القانونية وتلك المتصلة بحكم الدولة لصالح عملية محو كبرى وإجرامية، تقايض الحد الأدنى من شروط العيش بتدمير المساءلة، وتعزيز الإفلات من العقاب، والإعدام الدائم للضحايا وحقوقهم.
قانون قيصر سيُرفع، وقد بدأ التمهيد لهذا المشروع منذ فترة بشكل خبيث، يربط بينه وبين ضرورة تأمين الحد الأدنى من الكهرباء للشعب اللبناني، قبل أن يصار إلى رفعه بالكامل تحت عنوان إنساني وأخلاقي. الأمر نفسه سيتكرر في ما يخص التحقيق في تفجير مرفأ بيروت. سيتوقف القتل المباشر على حساب كل المآسي التي جرت على امتداد كلّ هذه المرحلة. ستحصل الشعوب المنكوبة على حدودٍ دنيا من الموارد والطعام، والشراب، الإنماء والوظائف مقابل خضوعها للحد الأقصى من البربرية، وقمع السؤال القانوني والأخلاقي حولها وإخراجه من التداول.
هكذا سيستمر الضحايا في الموت، ويستمر الأحياء في العيش تحت ظلال صفقةٍ تحولهم رغماً عنهم إلى قتلى، أو إلى "أشخاص مقدسين" وفق تعبير الفيلسوف الايطالي، جورجيو أغامبين، والذي يعني الأشخاص غير الخاضعين لحماية القانون، ويمكن لأيّ كان أن يفعل بهم ما يشاء من دون أن يخضع لمساءلة من أيّ نوع.