كاميرات القتلة .. توثيق الولاء

02 مايو 2022

(فاتح المدرّس)

+ الخط -

لم أصرُخ ولم أعترض. ببساطةٍ تقبلت الأمر. كان عليّ أن أستقبل الموت القادم من بنادقهم بهدوء. لم أرغب أن أزعج ملاك الموت بضجيج الحياة، هكذا كان كلّ شيء حولي غائباً، صراخ أبي وبكائي لم يكونا ليغيّرا أي معادلة، وأنا استسلمت، كان الفراغ يحتضنني، فقط بعض شتائمهم كانت تؤلم روحي التي هي على وشك الرحيل، تذكّرت أنّني أريد أن أقول لهم شيئاً: "لا تخبروا أمي كيف قتلتموني".
تلك وصية مجد، ابني الذي نجا منهم. هو ليس وحده من كان لا يريد أن يكون موته معلناً بتفاصيله. قولوا لها إنّه رحل، لماذا وكيف وإلى أين ليس مهماً. التفاصيل تتحوّل أحياناً إلى أدوات تعذيب لأحبتنا، هذا ما كان ابني يدركه وهو يجرّ إلى خاتمةٍ لمعنى "الحياة في دمشق" التي يزاود بعضهم علينا بترديدها. نجا ابني من آخر مشهد مكرّر لفيديوهات القتل في سورية، ويبقى سؤالي: هل حقاً قد نجا؟
تعيدني مقاطع الفيديو التي نشرتها صحيفة الغارديان اللندنية إلى مشهد حضرته في مكتب المسؤول الأمني للقصر الجمهوري، خلال تحقيقه معي في الشهر الخامس من عام 2011، عندما رفع في وجهي "شريطاً مصوّراً"، وقال: "لقد صوّرنا كيف انقض المتظاهرون على الأسلحة التي تركناها وبدأوا باستخدامها... إنّها نهاية ثورتكم". كان سعيداً بنجاح الفخّ الذي نصبوه. الكاميرا بيدهم ليست مندسّة، إنّها جزءٌ من المشهد العام للجريمة، وتسريبات كثيرة مصوّرة لم تكن مصادفة عابرة، أو حتى عملاً مضادّاً بغاية تعريتهم. إنّها سلاحهم الحادّ، سلاح الترهيب، إعلان مموّلٌ بدماء السوريين عن نوع بشري "متحوّل" لا ينتمي إلى أي دين أو طائفة. إنّه ببساطة مدرسة الأمن السوري، وفقط، بكلّ من ينتسب لها على اختلاف خلفياتهم القومية والدينية والمذهبية.

ليس الامتحان مرهوناً بعناصر أقل مكانة أو أكثر حظوة، الجميع مرّ من هناك وأمام الكاميرات، من الأسد الأب إلى الأسد الابن

الفيديوهات القاتلة ليست مسرّبة من هاتف عنصر أمن صوّر الجريمة لهول فظاعتها، إنّها بعض من أرشيف كامل للأمن السوري عايش تطور التكنولوجيا وأساليب التجسّس على السوريين منذ تأسيس المكتب الثاني برئاسة عبد الحميد السرّاج، يدرس من خلالها سلوك عناصره ويحدّد درجات ولائهم وقدرتهم على تنمية الوحش الذي زرع داخلهم. لهذا يبدو من المنطقي أن تكون مقاطع الفيديو موجودةً ضمن محتويات داتا أجهزة حواسيبهم، وضمن دروس تأهيل عناصرهم، وسيلة إيضاح وسلاسل قيد يطوّقون بها أعناق المتردّدين ويقيسون على أساسها ولاء المتنطّحين للمناصب الجديدة، فهل أنت مؤهلٌ لتكون جزءاً من هذا النظام؟ افتح عينيك وقلبك واقتل ضميرك ثم اعتلِ الدرج!
ليس الامتحان مرهوناً بعناصر أقل مكانة أو أكثر حظوة، الجميع مرّ من هناك وأمام الكاميرات، من الأسد الأب إلى الأسد الابن، والأرشيف عامر بما لا يمكن توقعه.
حكاية أمجد يوسف (المجرم في فيديوهات "ذا غارديان") هي حكاية كلّ عنصر أمني يطمح لأن يكون من أهل الثقة لدى نظام الأسد. الجريمة أقصر طرق الوصول إلى الدائرة الموثوقة، في كلّ الجرائم التي تسرّبت مقاطعها، لم يُخف أيٌّ من مرتكبيها وجهه، لم تهزّهم الكاميرا، حرصوا على أن يأخذوا زوايا تثبت أنّهم يرتكبون الجرائم بمتعة، أظهروا قدراً كافياً من الحماسة، كرّروا فعلتهم مع الضحايا، أدركوا في لحظة مناسبة تفوقهم، التفتوا إلى المصوّر وأطلقوا تعليقاتهم الحماسية. لا شيء يدعونا إلى الاستغراب، هو يظهر بوضوح بكامل هيئته ويحرص على تصوير تفاصيل وجهه، ويرسم خطواته بثقة. إنه الجسر الذي يوصلك إلى قصر الرئيس من دون طلب لقاء، أو المرور بوسيط، اضغط زر الإرسال، هناك من ينتظر مشاهدة يوميات جنوده الأوفياء، وقصصهم، ويتعرّف إلى عدد ضحاياه، ليمضي إلى فراشه مثقلاً بأفراح انتصاراته على أعدائه المدنيين الإرهابيين.

السوريون يكسبون الموت بالقتل المباشر، أو تحت أنقاض بيوتهم المقصوفة، أو يتركون ليموتوا جوعاً وبرداً وحرقاً

لا توجد جرائم في سورية غير موثقة في أرشيف الأجهزة الأمنية، من إعدامات سجن تدمر إلى مجزرة جسر الشغور، ومن حصار درعا إلى مجازر صيدا وكفر عويد والتريمسة والحولة والقبير وزملكا وداريا والبيضا والرستن ورسم النفل ونهر قويق والغوطة وخان شيخون ومخيم اليرموك، بأغلبية ضحاياه الفلسطينيين، إلى مجازر إدلب. ليس هذا التوثيق خشية ضياع مصير الضحايا، لكن لأنّه الطريق إلى فرز الموالين المخلصين للنظام من جهة، ولإمساك ما يدينهم، فلا تسوّل لهم أنفسهم التبرؤ مما ارتكبوه من جهة ثانية. ولتمايز هؤلاء عن ضباط وعناصر آخرين، يشرع بعضهم في ارتكاب جرائمهم كأدوات تنفيذية خاليةٍ من الحماسة والاندفاع، رغم ارتكابهم مجازر القتل، لكنّهم يستطيعون التمييز بين من آمن بالقتل وسيلة لحياة نظامه ومن ينفذه فقط.
كما أنّ لهذه الفيديوهات المصوّرة أو الصور الليزرية أو الفوتوغرافية مهمة أساسية في إمتاع قيادات النظام، وضمان وحشية قواتهم، وإخلاصها لهم في تنفيذ مهمات إبادة معارضيهم وحاضنتهم الشعبية، إذ تبنّى رأس النظام بشار الأسد في خطاباته نظرية الإنسان ابن بيئته، التي برّر فيها قصف قواته مناطق سكنية كاملة تحت اسم بيئة حاضنة للإرهاب، وأنّها أسهمت في صناعة المجتمع المتجانس من قتلة ومؤيدين لهم فقط.
منذ بداية الأحداث، احتكر النظام مشروعية حمل الكاميرات لنفسه، فقد جرّم رأس النظام كلّ من أسهم بالتقاط صورة لمجريات الثورة السورية، وطرق قمعها، من أجهزته الأمنية، واعتبرهم أخطر على الدولة من المتظاهرين أنفسهم، في وقتٍ استخدمت أجهزة الأمن الكاميرات لتكون إحدى وسائل الترهيب وتعريف الناس بمصائرهم المحتملة، وإثبات التهم على المتظاهرين، فإما يصار إلى ابتزازهم لاحقاً أو اقتناصهم، فالسوريون يعيشون حالة من الإثارة الدائمة، حيث أقدارهم كاليانصيب، إما أن يكسبوا الموت بالقتل المباشر، أو تحت أنقاض بيوتهم المقصوفة، أو يتركوا ليموتوا جوعاً وبرداً وحرقاً، أو يخسروا قيمة حياتهم بنطاق صمتٍ تحدّده جغرافية مكان إقامتهم. هذا يانصيب الموت والحياة وجوائز القهر السوري، وتسريبات قديمة وجديدة، فقط، تحدّد لنا خريطة طريق مقابرنا المجهولة.

930EB9D8-8BB0-4CDA-8954-FE630C4A380F
سميرة المسالمة

كاتبة وصحافية سورية، رئيسة تحرير جريدة تشرين سابقاً، نائب رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية