قيس سعيّد والجامعيون
لا يتذكّر التونسيون أن رئيسهم، قيس سعيّد، أشاد في خطاباته، ولو مرّة واحدة، بالجامعيين أو النخب عموما، رغم أنه جامعي قضى شوطا طويلا من عمره يدرس القانون الدستوري حتى تقاعده قبل سنوات قليلة من تولّيه الرئاسة، ولم يكن حينها معروفا في الأوساط الأكاديمية. كان منطويا على نفسه زاهدا في المشاركة في مختلف التحرّكات التي خاضها الجامعيون تحت حكم بن علي. كان قليل المشاركة حتى في الملتقيات العلمية، ولم يُنتج أثرا علميا يأتي له الانتباه، على غرار عياض بن عاشور، عبد الفتاح عمر، محمد الشرفي ... إلخ.
حين انتُخب سعيّد رئيسا سنة 2019، ابتهجت أوساط واسعة من الجامعيين لصعود زميل لهم إلى سدّة الرئاسة، سيما وأنها المرّة الأولى التي يفوز فيها جامعي بهذا المنصب المهم، غير أن هذا التفاؤل سرعان ما تراجع، حينما بدأ الرئيس يكشف عن أطروحاته السياسية بالتدرّج. في كل ما كان يلقي من دروس ومواعظ لبلورة ملامحه "فكره الجديد"، لم يستعمل مفردة نخب أو مثقفين أو جامعيين. وليس هذا مجرّد نسيان أو سهو، بل الأمر من صميم قناعة الرئيس وأطروحاته، وهو الذي يحرص على ازدراء الأجسام الوسيطة من دون أن يذكُر ذلك صراحة، بل إنه يسير حاليا في تفكيك كل هذه الهياكل التي تراكمت منذ أكثر من قرن في التراث الاجتماعي والسياسي للبلاد التونسية. إنه يعدّها حاجزا يحول دونه وشعبه.
تكاد ثلاث سنوات تكتمل من دون أن يغير الرئيس من قناعاته تلك، فما زال يرى في كل تلك الأجسام عراقيل تمنع الشعب من أن يعبّر عن أفكاره ومواقفه. ولا تقف هذه الأجسام الوسيطة عند هذا الحد، بل إنها تنافسه السلطة وتقاسمه النفوذ. ومع ذلك، علينا أن نستحضر بعض الاستثناءات النادرة من هذه القاعدة، فلقد التقى الرئيس الجامعيين مرتين، كانت الأولى في يناير/ كانون الثاني 2022، حين التقى ثلة قليلة من زملائه المختصين في القانون الدستوري. وقد أراد آنذاك أن يمضي في إلغاء دستور 2014 وصياغة آخر، ومنهم أمين محفوظ والصادق بلعيد. ويعلم الجميع النهايات الحزينة التي أغلقت نهائيا باب مشاركتهما في صياغة الدستور. أصبح الأول شاعرا يشكو وحدته وغدر الزمان به في تدويناته الفيسبوكية، ولاذ الثاني بالصمت، إثر ألم حلّ به، بعد أن نشر في الصحافة موقفا مناهضا لمشروع دستور 2022 الذي يُعتقد أن الرئيس صاغه على مقاسه.
يجد الرئيس التونسي نفسَه في حاجة ملحّة إلى حلّ معضلة التشغيل التي يعاني منها ما يناهز عن مليون عاطل عن العمل، ثلثهم من حاملي الشهادات الجامعية العليا
يلتقي الرئيس قبل أيام، للمرة الثانية، بأساتذة جامعيين مختصّين في علوم الاقتصاد. وحسب بيان رئاسة الجمهورية والصحافة الذي نقلته، دار اللقاء في مسائل الفساد والأمن الغذائي والطاقات البديلة والتعويل على الذات. لا أحد يعرف ما الذي دار بين الرئيس وضيوفه من الجامعيين، وما قاله هؤلاء تحديدا، فالكل يعلم أن الرئيس يلقي دروسه على من يلتقيهم. لا يقدّم هؤلاء حلولا، بل الرئيس هو الذي أوضح لهم الحل، وقد تم انتقاء مقتطفات من "توجيهاته" لهم، خصوصا المتعلقة بـ"الشركات الأهلية"، وهي من أشكال الشركات الصغرى التي يساهم فيها أبناء الحي أو المنطقة على أساس مناطقي تحديدا من أجل بعض مشاريع اقتصادية (محلية وجهوية)، تتوزع أرباحها بين الأعضاء أنفسهم. وقد جرى إصدار القوانين المنظمة لهذه الشركات التي ووجهت بنقد عنيف، على اعتبارها (الشركات) جزءا من بناء قاعدي يريد أن يوفر موارد مالية لها البناء الذي يلح على تجسيده أنصار الرئيس، المستوحى من توجهات ماركسية، خصوصا وأن تيارا سياسيا عرفته الجامعة التونسية خلال السبعينيات (المجالسيون) كان قد نظّر لهذه الأطروحة ودافع عنها طويلا، بديلا لوضع حد لـ"هيمنة الملكية الفردية".
بقطع النظر عن قناعاته السياسية التي تُبعده أو تقرّبه من الماركسية في هذه المسألة بالذات، يجد الرئيس التونسي نفسَه في حاجة ملحّة إلى حلّ معضلة التشغيل التي يعاني منها ما يناهز عن مليون عاطل عن العمل، ثلثهم من حاملي الشهادات الجامعية العليا. يعتقد الرئيس أن هذه الشركات الأهلية يمكن أن تكون حلا لهذه المعضلة، رغم أن خبراء ورجال اقتصاد عديدين يعتبرون هذه التجربة التي يلحّ عليها الرئيس بكثير من الريبة والشك، ويعتبرونها إما تمكينا لأنصاره ومنحهم قوة اقتصادية على الأرض، أو هدرا لمقدّرات البلاد الشحيحة أصلا، فهذه الشركات لا تحتوى على مقوّمات المؤسّسات الاقتصادية الربحية بالمعنى الحديث، وهي أقرب إلى تعاونيات الاقتصاد التضامني وتعاضدياته، على غرار ما عرفته تونس في أثناء ستينيات القرن الماضي، مع المرحوم أحمد بن صالح التي آلت إلى فشل ذريع.
التقى الرئيس في مناسبتين الأساتذة الجامعيين، واستمعنا إلى آرائه، من دون أن نعلم إن كان هؤلاء تكلموا أصلا في حضرته، فلم ينقل إعلام الرئاسة أو الصحافة أي شيءٍ يمكن أن يكونوا قالوه، ولو من باب المجاملة.