قيس سعيّد ... عودة إلى البدايات
تقترب تونس من عامها الرابع تحت حكم قيس سعيّد. يوم أدّى اليمين في 29 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، ألقى كلمة يجوز العودة إلى نصّها المنشور حرفياً في أكثر من موقع بعد هذه السنوات للوقوف عند بعض أقواله التأسيسية لمرحلة حكمه.
يومها، قال القاطن الجديد لقصر قرطاج إنّ "الشعب استنبط طرقاً جديدة في احترام كامل للشّرعيّة...". وتحدّث عن "لحظةٍ تاريخيّةٍ يتغيّر فيها مسار التاريخ، بوعي الشعب بأنّه قادرٌ على تغيير مساره، في الاتجاه الذي يريد". ومما قاله يومها أيضاً "الجميع هنا يحمل أمانة، كلّ من موقعه والأمانة أمانات، أمانة الاستجابة لأبناء هذا الشعب، في الحرّية وفي الكرامة...". كما توقّف عند أمانة أخرى، قائلاً إنه "لا شكّ بأنّ الجميع يشعر بثقل أوزارها، هي الحفاظ على الدّولة التونسيّة...".
حتى إنه تحدّث بكل ثقة عن أنه "ليكن الجميع على يقين أنّ الحرّية التي دفع شعبنا ثمنها غاليا من أجل الوصول إليها، وممارستها في إطار الشرعيّة، لن يقدر أحدٌ على سلبه إيّاها تحت أيّ ذريعة، أو تحت أيّ مسمّى...". وهو القائل، في الخطاب نفسه، إنه "آن الأوان لتصوّر سبل جديدة، لتحقيق آمال شعبنا، في الشغل وفي الحريّة وفي الكرامة الوطنيّة"، و"ليس هناك من شكّ على الإطلاق بأنّ المنظّمات الوطنيّة يمكن أن تكون قوّة اقتراح، فوطنيّة أعضائها لا يشوبُها ريْب، وقدرتهم على تقديم الحلول، وفتح آفاق جديدة، أشدّ وأقوى لتجاوز كلّ الأزمات..."، من دون أن يغفل الحديث عن أن التونسيين والتونسيات "في حاجةٍ فقط إلى علاقة ثقة جديدة بين الحكّام والمحكومين، فليساهم الجميع في هذه العلاقة التي افتقدوها منذ زمن بعيد".
على الأرجح، لم يكن التونسيون يتوقعون أن كل ما وعد به سعيّد في يوم تسلمه الحكم سيتحقّق. لكن أيضاً لم يدر في ذهنهم أن ما ستحمله سنوات حكم سعيّد ستكون النقيض شبه الكامل لما جاء في كلمة رئيسهم، لكنهم أدركوا لاحقاً أن ما كان يتحدّث عنه رئيسهم هو تصوّر خاصٌّ به احتفظ به لنفسه حتى حانت اللحظة المناسبة لتطبيقه. استغرق سعيّد نحو عام ونصف العام، ليظهر أنه لا يريد أي مؤسّسات ديمقراطية وشرعية، عندما اختار في 25 يوليو/ تموز 2021 الانقلاب على النظام والمؤسّسات وفرض نفسه تباعاً صاحب الكلمة العليا والوحيدة. وكل المؤسّسات التي سمح لها بالعودة للعمل، إما بعد تجميدها أو حلها أو تفكيكها عادت مكبّلة وتحت إمرته.
وحتى الشعب الذي كرّر أنه يحمل أمانته لم يقدّم له، بما أنه المسؤول الأول، لا الحكومة الصورية، أي تحسين في وضعه المعيشي، بل أغرقه في أزماتٍ لا تزال تتفاقم، ولا يُعرف إلى مدىً ستصل خصوصاً في حال فشل المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بشكل نهائي.
وإذا كان سعيّد تحدث، في خطاب اليوم الأول من الحكم، عن دور للمنظمات الوطنية، وأشاد بوطنية أعضائها، فإن التجربة أكّدت أنه لا يقيم لها وزناً، في ظل علاقته المتردّية معها وخصوصاً الاتحاد التونسي للشغل، وإن لم تصل حتى اللحظة العلاقة بين الطرفين إلى مواجهة مفتوحة. وإذا كان سعيّد انقلب حتى على المنظمّات يصبح مفهوماً ازدراءه كل ما له علاقة بهياكل خارجة عن إرادته وسطوته ولجوئه إلى منطق التخوين، خصوصاً ضد الأحزاب والقوى السياسية.
منذ انقلاب 2021، تم استهداف كل معارض لسعيّد، وفي كل مرّة هناك تهمة جاهزة لكن هذا التغوّل في القمع بلغ مرحلة جديدة في الأسابيع الماضية، بعد حملة الاعتقالات التي طاولت أبرز الشخصيات المعارضة له، والتي تمدّدت لتصل إلى صحافيين ونقابيين.
بالنسبة لسعيّد، المسألة واضحة لا صوت يعلو فوق صوته، ولا إرادة فوق إرادته. أما من يتجرّأ على مخالفته فالسجن بالمرصاد. يحول سعيّد تونس تدريجياً إلى سجنٍ كبير يضطرّ فيها المواطن إلى أن يحسب حساب كل كلمة يتفوّه بها خشية تأويلها والانقضاض عليه بواحدةٍ من التهم الجاهزة.