قيس سعيّد .. اسمعني أنا فقط أتكلم
تخمة الكلام ووفرته، حتى وإن صار بلا معنى، أو بمعنى عفا عليه كليةً الزمان والكرسي والحكم وأدبيات السماع والإنصات ومحادثة الناس، ذلك كله يمثل قناعاً نفسياً للتغطية على الجرم الأصلي، وهو اختطاف الكرسي والانفراد به وتحويل الرعية، كل الرعية، إلى مجرّد أشباح تنتظر الفرمانات من دون أي سند من مصداقية. وما الكلام ووفرته من طرف واحد في حقيقته للأسف، طرف قيس بالطبع وحده، إلا محاولةٌ عبثية ومضحكة، لإسكات الخصوم وتحويلهم، جميعاً، إلى تلاميذ صغار في "كتّاب القرية"، وليس عليهم سوى الإنصات الجيد لما يقوله "سيدنا". بالطبع، يرى قيس نفسه جيداً بعد كلّ "خطبةٍ من فوق جبله" ويحسّ بأنّه كلما مرّت الأيام يزداد رسوخاً، إلّا أنّ الخارج الذي انتهى من هذه الحيل منذ قرون، يردّ عليه بسطرين فقط، كالاتحاد الأوروبي، بالأمس، وقراره بالأغلبية بعودة الحياة الديمقراطية إلى سابق عهدها، فيزداد "سيدنا" تهوّراً وترتعش جمله ويأخذُه لسانه إلى ما لا تُحمد عقباه، وتضيع منه البلاغة ويسيل قناع الشمع من التهتهة.
أناسٌ كانت كلماتهم قليلة أو قاموسية أو "هرتلة عامية مشفرة"، لزوم الزغزغة والإعلان عن وفرة قوة بدلالة اللفظ والحركة مثل "كده"، أو "ما حدّش يقدر ياكل لقمة العفي"، كلها حيلٌ لغويةٌ لأناسٍ ليس لهم في حبل الكلام، من مصداقية أمام الكاميرا، سوى زغزغة المشاعر، أمام فقر قاموس المصداقية وعدم نضج الرؤية في الحكم.
أناسٌ فجأة واجهتهم الكاميرا، فأحبّوها، وأكثرهم يعرف مسبقاً أنّ شرط الثبات والتحكّم أن يصمت الجميع بتاتاً في حضرته، وحتى وإن فتح نافذةً صغيرةً لبعض الكلام، يرد منفعلاً: "أصل أنتوا ما تعرفوش" أو: "لازم ال يتكلم يكون ملم بالموضوع أولا، وعارف هيعالج المشكلة كيف" أو حينما تبلغ الهرتلة قمّتها يقول: "ما تسمعوش حد غيري" كلها دعامات وأسانيد، للإخراس التام، كي يحلو له وحده الكلام، وينفرد ببهجة الحديث أمام الكاميرا، وعلى المحكومين الإنصات، وإلّا عليهم أن يتذكّروا ما كان: "رابعة والنهضة والحرس الجمهوري... إلخ" كي ينبّه من تسوّل له نفسه أنّ ثمن عدم الإنصات للحكم والدرر واتباع النهج هو القتل، وعلى المواطن أن يحسب حسبته.
هنا يتحوّل الكلام إلى رصاصة، والكرسي، مصر، إلى "ستّ جميلة بهية" وهو وحده المكلف بحمايتها من فوق الكرسي، ومن تسوّل له نفسه الاقتراب من الكرسي: "هشيله من على وشّ الأرض". هكذا تفعل الكاميرا في الناس، وهكذا يبوح راكب الكرسي بعصارة فكره وكتبه التي قرأها خلال ستين سنة كاملة بلا نقصان.
أما لو جاء السند خارجياً من فقيهٍ مفوّه وعالمٍ تفيض عليه العبارة تماماً بالغرض والمقصود، ويقول له، في صيغة أمرٍ لأول مرة في تاريخ الفقه مع السلاطين: "اضرب في المليان". نحن أمام مشكلة، عربية بامتياز، بعدما صارت الوليمة في حجورهم والكاميرا قريبة منهم، وهم فوق الكرسي في محاولةٍ لاستجلاب الكلام، وعلى الحاضرين، الإنصات في وقارٍ ومهابة.
الاستحواذ على مائدة الكلام كلها في كل أطراف البلاد والتلفزيونات والنت ومصادرة المواقع، وحتى متابعة المقاهي في وجود الكاميرات في كل ركن، كلها حيلٌ لاستعراض القوة والمنعة، وشدّة الوجه وجعله بلاستيكياً أو شمعياً، كلها حيل للدخول إلى مسرح مصادرة كل الكلام لصاحب القعدة حتى كلام "ربّات البيوت"، وأسواق الخضار وملاعب الكرة والألتراس، وحتى أفلام السينما التي تنهش في سمعة مصر، كلها محاولاتٌ لتأمين الكلام، كلام الحاكم، كي لا تتكرّر المأساة التي تشيل الكراسي وتخرّب البلاد وتفقر العباد، على حد تعبيراتهم.
نحن أمام مصادرة للكلام تحت تهديد السلاح، والمقابل هناك، سجونٌ مفتوحة تصل "لسبع نجوم"، على حد تعبير أحدهم، وقد تصل لثمانٍ في "النوع الأميركي المعاصر، مجمع السجون". وأنا أزداد عجباً حينما أقرأ أنّ خلفاء بني العباس كانوا يحرصون على الإتيان بالفقهاء لتعليم الأمراء الكلام، والأدب، والفقه، والشعر. وكان حمّاد عجرد يتنافس تنافس الملهوف من أجل الفوز بتربية الأمين، لكنّ هارون الرشيد كان قد وعي مبكّراً، إلى بعض "تهتك في سيرة الرجل"، فأوكل تثقيف الأمين إلى قطرب النحوي. هكذا نقرأ ما يخجلنا، وفي الصباح نجد أنفسنا أمام الحاج قيس سعيّد، وهو يرسل "بارود الكلام" إلى أوروبا جمعاء، فلا يجد المرء من سبيل سوى الأسى على ما كنّاه وما نكونه.