قواعد المقاولة بالباطن بين إسرائيل وحزب الله
"الكيان الصهيوني ليس في وضعٍ جيّد داخلياً ودولياً، ويمكن القول إنه في أسوأ حالاته على مدار التاريخ". بهذه الكلمات، دشّنت إيران، بلسان أحد كبار مسؤوليها، عباس غلرو، مرحلة قديمة - جديدة، تجاوزت فيها "الردّ على إسرائيل في المكان والزمان المناسبين"، وأضافت إليها منذ أيام: "عبر رجال "حماس" المناسِبين".
علَتْ الهيْصَة، واجتمع الأركان، وأطلقت من لبنان "جبهة تنسيقية" بين أحزاب "محور الممانعة"، ومعها صواريخ الكاتيوشا نحو إسرائيل. وانتصبت الأقلام الحزبلاهية، تُعيد وتزيد، كم أننا أصبحنا أقوياء، كم أن إسرائيل ضعيفة... واستفاقت شعارات المعركة: محور المقاومة يتحّرك ... القدس ليست وحدها ... المقاومة توسّع ردودها ... لا تخلّي عن القدس.
يرافقهم "تحليل" يقول إن "حزب الله مايسترو قواعد الاشتباك". آه، "قواعد الاشتباك" نُبِشت مجدّداً، لها فعل السحر والفهم. "قواعد الإشتباك" بين إسرائيل وحزب الله: ترنيمة "الجولات" الدموية بينهما، وقد "نظّر" لها حسن نصر الله بعد كل جولة مماثلة. والآن، تأخذ مداها هذه "القواعد"، تتبلور، تتجوهر. كانت تعني قبل ذلك أن حرباً شاملة بين إسرائيل وحزب الله ليست واردة، وأن "عمليات" الحزب من لبنان لها ما يضبطها بردود محدّدة، مدروسة، لتنتهي دائماً بالتجميد، وبحسبانها "تراكماً" سوف يصل إلينا بعد جولاتٍ مثلها إلى تحرير كامل فلسطين.
والذي تغيّر: إنه بعدما "ضعفت" إسرائيل، وهي تضرب في سورية، في القدس، وفي شهر رمضان، يحضُر إسماعيل هنية "زعيم حماس" إلى بيروت، "منسّقاً" مع السفير الإيراني وحزب الله. والمناخ المواتي جداً للقيام بعملية "غامضة" تسجَّل باسم الفلسطينيين، من منطقةٍ يرصد فيها حزب الله دبيب النمل، وبسلاح الكاتيوشا، يعود إلى السبعينيات عندما كان للفلسطينيين كلمتهم في جنوب لبنان، لا بالصواريخ الدقيقة، مفْخَرة حسن نصر الله. وبؤساء مخيم شاتيلا يحملون إسماعيل هنيّة على أكتافهم، بالزغاريد، وبصرخات، قديمة أيضاً: "ع القدس رايحين... شهداء بالملايين".
"قواعد الإشتباك" بين إسرائيل وحزب الله: ترنيمة "الجولات" الدموية بينهما، وقد "نظّر" لها حسن نصر الله بعد كل جولة مماثلة
والذي تغيّر، بعد تلك الصورايخ المرْمية على شمال إسرائيل من لبنان، أن الحزب "يصمت" عنها رسمياً. يرفض نوّابه التعليق عليها، تاركين لإعلامه مهمة التهليل والتكبير لها. فيما إسرائيل تردّ عليها بكمْ ضربةٍ على أرض بور في مخيم الرشيدية (جنوبيّ لبنان)، حيث يُفترض أن الكاتيوشا انطلقت. ويسكت الجيش الإسرائيلي عن مسؤولية حزب الله، وينسب العملية إلى الفلسطينيين.
تلك هي "قواعد الاشتباك" بين إسرائيل وحزب الله، بنسْخةٍ معدّلة. المقاول، حزب الله، يقدِّر أن تنفيذ مشروعه المديد بيديه قد يكلفه كثيراً، فيعهد إلى مقاول بالباطن، الفلسطيني، مهمّة تنفيذ "ضرْبة"، برجاله وسلاحه ولغته، ويخرُج هو من ذلك مثل الشعْرة من العجينة: "ليس أنا" يقول لسان حاله، بنوعٍ من التذاكي الذي لا تودّ إسرائيل أن تكشفه، لأنها تقدِّر، حسب "قواعد الاشتباك"، هذا النوع من الذكاء.
وللمقارنة البسيطة: في هذا الوقت نفسه، تحصل عمليتان انتحاريتان في تل أبيب وغور الأردن، توقعان قتلى وجرحى إسرائيليين، فيغضب نتنياهو، قائلاً إن أعداء إسرائيل "سيدفعون غالياً ثمن كل اعتداء"، ويعطي أوامره للشرطة بسحب أربع وحدات من الاحتياط المرابطة على الحدود، ونشرها في وسط المدن، والحدود الشمالية، مع لبنان، من بينها، أي إن نتنياهو "هدّأ" اللعب على حدوده الشمالية، احتراماً لـ"قواعد الاشتباك" بينه وبين حزب الله، وجنَّد كل طاقاته الانتقامية نحو الداخل الفلسطيني، فمن حَسَنات المقاول بالباطن، أيضاً، أنه يتحمّل كامل مسؤولية أفعاله، تاركاً للمقاول الأصلي حرية "قيادة" مشاريعه الأكبر.
لحزب الله تجربة عريقة في أعمال الباطن. إيران لزّمته مشروعها في المشرق، وكان "درّة" من دُرَر مقاولي الباطن لصالحها
لحزب الله تجربة عريقة في أعمال الباطن. إيران لزّمته مشروعها في المشرق، وكان "درّة" من دُرَر مقاولي الباطن لصالحها. وهو "كبر"، بعد "انتصاره التاريخي الإلهي" عام 2006، وبلغ الأعالي في حربه على الشعب السوري، فارتفعت درجُته، وصار في وسعه أن يلزِّم آخرين بعملياته، لأن لا بيئته ولا بلده المنهاران يتحمّلان حرباً على إسرائيل، فيتفق معها على "قواعد اشتباك،" حفاظاً على تحكّمه بلبنان، وعلى تمدّد أذرعته في سورية والعراق واليمن، وحفاظاً أيضاً على سلاحه، "رموش عينيه"، وتجنّباً للتحوّل إلى "سلاح سابق"، على غرار الفلسطينيين الذين يستخدمهم الآن، بعدما فقدوا عَصَبهم. فلا القضية الفلسطينية تهمّه، إلا ذريعة لسلاحه. ولا "جبهة" بين أطرافٍ أنداد، أو تحرير فلسطين أو الاهتمام أصلاً بالشعب الفلسطيني، أو بأي شعبٍ آخر يناله سلاحه، فهو قتل فلسطينيين في سورية، بقدر ما قتل من اللبنانيين. من أدواره المجيدة هناك: محاصرة أهل مخيم اليرموك الفلسطيني وتجويعهم عام 2015. والفلسطينيون السوريون الهاربين من سورية، ويبلغون عشرات الآلاف، كأنهم غير موجودين، إلا لاستقبال إسماعيل هنية بالأهازيج. يتحكّم الحزب بهم، يضمّهم إلى من سبقهم، يراقبهم، يساهم في إقصائهم، وفي حرمانهم أبسط حقوقهم الإنسانية... وكذلك يفعل مع السوريين، ولكن بتوحّشٍ أكبر: يهجّرهم من ديارهم في سورية، يحرقها ويحتلها، وبعد ذلك يريد أن يتخلّص منهم بشتى الطرق، منها دعوتهم إلى العودة إلى هذه الديار المدمّرة نفسها، تحت حكم شريكه في القتل، بشّار الأسد.
بالمقاولة الأصلية، فعل حزب الله الشيء نفسه مع اللبنانيين. لا حاجة إلى تكرار ما أوصل إليه البلاد، هو وحلفاؤه وشركاؤه الفاسدون. كلنا صرنا نعرفها. ولا عجب أن يتواطأ مع إسرائيل إلى حدّ تقديمه اللحم الفلسطيني الحيّ على مذبحها. إنه حزب الموت، والقتل و"الجهاد" المزيَّف.
وفوق ذلك: لم يسبقه حزب ولا جيش في لعبة الكَشَاتْبين هذه، التي تخالف أبسط قواعد منطق سياسي، إنساني، عمَلي. لعبة تزيِّغ نظرك، تضيّع فطنتك، ولا تعود تعرف أين الصحّ من الغلَط. والفرق الوحيد أن لعبة الكَشَاتْبين مسلّية، ومربحة أحياناً، فيما لعبة حزب لله سمِجة، خاسرة، دموية... كيفما لزّم، كيفما موَّه، أو بدّل من الأقنعة.