قوائم الإرهاب أم حاجة مصر إلى مصالحة عامة؟
رفعت النيابة العامة المصرية، الأسبوع الماضي، أسماء قرابة 716 اسماً من إحدى قوائم الإرهاب، ويعود تاريخ هذه القوائم إلى عام 2018، حيث رفع النظام وإعلامه وأركان دولته شعار "مصر تحارب الإرهاب"، والذي كان ملصقاً دائماً على القنوات التلفزيونية، وربما تعدّى تأثيره كل الشعارات خلال العقدين الماضيين. فأينما رفع مصريٌّ صوته شاكياً من حاله وحال البلاد أو من فاتورة كهرباء أو مياه أو غاز اعتبره النظام خائناً وعميلاً، وقد يعتبره القضاء المسيّس تماماً إرهابياً أو يشارك جماعة إرهابية في تحقيق أهدافها، الأمر الذي دفعت ثمنه البلاد كثيراً فلا سياحة ولا استثمار أجنبياً حقيقياً أتى بالشكل المتوقع لبلدٍ يعلن بنفسه أنه يحارب الإرهاب، كما أن القاصي والداني يعلم أن مصر، ومنذ انقلاب 3 يوليو (2013) مشحونة بالكراهية السياسية ومرشّحة للاضطراب السياسي العنيف في أي لحظة، بسبب تراكم المظالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإن ادّعى النظام تثبيت أركانه.
هكذا اتّسعت دائرة الاتهام بالإرهاب، حتى صدرت قوائم تضم أناساً بعضهم خارج البلاد، وآخرون في السجون، وهناك من لا ينتمي إلى أية تنظيمات سياسية، وربما لم يذهب إلى التصويت في أي انتخابات في حياته، ولم يصدر عن أيٍّ منهم عنف موثق، وفق ما أفاد قرار استبعادهم من تلك القوائم. هكذا تشرّدت آلاف الأسر في مصر، بسبب تلك القرارات التي وصفها بعضهم بالاحترازية في مواجهة إرهابٍ كان محتملاً، حين طلب عبد الفتاح السيسي تفويضاً لمواجهته، فصار حقيقة وواقعاً تمارسه السلطات بقوة غاشمة في مواجهة الجميع، وليس فقط المجموعات المسلحة التي صعدت ثم تراجعت في ظروف غامضة، لا يعلم عن تفاصيلها الكثير، وإن كابدت مصر بسببها الظلم والظلمات.
تخوفات من أن تجري قراءة أية محاولة مصرية لفتح حوار مع الإخوان المسلمين دعماً لقوى المقاومة الإسلامية، سواء في غزّة ولبنان
أثارت هذه القرارات موجة من البلبلة حولها موضوعاً وتوقيتاً وغيره هل هي بوادر مصالحة مع تيار الإخوان المسلمين المستهدف الأساسي بهذه القوائم؟ ومن ثم بقية القوى السياسية المعارضة للنظام، أم أنها توجه رسائل للغرب بأن النظام منفتح على كل الخيارات ويحاول تحسين سجله بالغ السوء في ملفات حقوق الإنسان وغيرها؟ وهل "الإخوان" والتيارات السياسية الأخرى مستعدون لمثل تلك المصالحة إن حدثت؟ هل ما يحدث مغازلة أو ابتزاز لبعض قوى الخليج والغرب في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية طاحنة أنه ما لم نحصل على التمويل فإنكم قد تواجهون هذه التيارات التي تخشونها ومن ثم عليكم دعم النظام السياسي؟ هذه تفسيرات وتساؤلات متعدّدة مطروحة، سواء على الإعلام والصحافة التقليدية أو وسائل التواصل الاجتماعي
لكن الحقيقة أن رفع هذه الأسماء لا يعني خروج بعضها من السجون أو رجوعها من الخارج، وإنما فقط رفع الأغلال والقيود التي فرضت عليهم للتصرّف فيما تبقى من أموالهم التي سطت عليها أجهزة النظام السياسي المختلفة، كما أن هذه الأعداد لا تتجاوز 15% ممن تشملهم تلك القوائم، بل بعض من جرى رفعهم من إحدى القوائم مدرجون على قوائم أخرى، فيما تفيد تقارير حقوقية بأعداد مفزعة للمختفين قسرياً، حيث تتجاوز معدلات الاختفاء القسري. وهناك عشرات الآلاف خلف أسوار السجون، فقط لأنهم على خلاف سياسي مع النظام، أو لأن بعضهم نشر استياء من سياسة عامة هنا وهناك أو ارتفاع فواتير أو تدهور أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية.
تشهد مصر معدّلات غير مسبوقة من القمع، والسجون تضم عشرات الآلاف من المعتقلين بسبب أي نشاط سياسي أو غير سياسي
بطبيعة الحال، وفيما رحّب الأزهر وقوى ممثّلة فيما يسمى الحوار الوطني وقوى سياسية في الداخل والخارج بالخطوة، واعتبروها إيجابية، هناك حملة إعلامية تبدو منظمة لمعارضة هذه القرارات، ولو على استحياء، لأنهم في النهاية لا يملكون أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك. لكنّ مقرّبين من النظام يشيرون إلى تخوفات من أن تجري قراءة أية محاولة مصرية لفتح حوار مع الإخوان المسلمين دعماً لقوى المقاومة الإسلامية، سواء في غزّة ولبنان، باعتبار أن تلك القوى ينظر إلى بعضها باعتبارها الجناح العسكري للإسلام السياسي أو للإخوان المسلمين، وهو تخوّف قوي لدى النظام، لكن يقابله أن هذه القرارات قد تخفّف من الانتقادات الحقوقية الغربية للنظام المصري، كما أنها قد تستقبل بإيجابية في بعض العواصم العربية والإسلامية التى تقارب معها النظام أخيراً.
ويفتح هذا النقاش المجال أمام تساؤلاتٍ عن وضع القانون والدولة في مصر، فقانون الكيانات الإرهابية الذي أقرّ بطريقة مريبة، ومن دون مراجعة برلمانية، إذ وافق مجلس الدولة على قانون قدّمته رئاسة الجمهورية بخصوص الكيانات الإرهابية في العام 2015، وهو قانون معيب، يهدر سيادة القانون ومبدأ العدالة، ليتوسع بعدها تصنيف المعارضين للنظام ضمن تلك القوائم، وتشمل أرقاماً تراوح بين 4408 شخصاً، بحسب ما تعلن الجهات الرسمية، 6692 شخصاً بحسب ما تؤكد مراكز حقوقية، أي إننا نظلّ إزاء مصير مجهول لآلاف الأشخاص بتهم تسلبهم ممتلكاتهم وحقوقهم السياسية والمدنية، ويظلون أرقاماً في قوائم هنا وهناك.
مصر في حاجة إلى مصالحة حقيقية بين كل تياراتها السياسية أولاً، وبينها وبين النظام إن كان جادّاً في هذا الاتجاه لمجابهة تحدّيات شديدة
رغم ما يثار من آمال، نعلم جميعاً أن مصر، للأسف الشديد، تشهد معدّلات غير مسبوقة من القمع، وأن السجون تضم عشرات الآلاف من المعتقلين بسبب أي نشاط سياسي أو غير سياسي، ويحصل هذا كله بالتزامن مع إغلاق المجال العام وتدمير العمل السياسي والتضييق على الأحزاب، وتأميم وسائل الإعلام بطرق ملتوية، سواء عبر إخضاعها للأجهزة الأمنية نشأة، أو لبيعها لممارسي الرقابة الذاتية المقرّبين من النظام، مع معدّلات فساد قياسية، وفي ظل تبعية مفرطة للمؤسسات المالية الدولية ولقوى إقليمية يجري بيع وتخصيص عديد الشركات لرجال أعمال ذوي تاريخ غير بريء، سواء لارتباطهم بتنظيمات بلطجة مسلحة خطيرة، أو لشبهات استغلال النفوذ في السيطرة على شركات القطاع العام ومصانعه في ظل خصخصة جائرة وسياسات لم تحقّق استقراراً مالياً أو اقتصادياً، وقادت البلاد إلى انكشاف كبير تجاه الخارج في قطاعات استراتيجية، كالطاقة والأسمدة والغذاء والدواء والصحة والخدمات المالية وغيرها، في وقت رأينا فيه كيف تُحدث التبعية التقنية للخارج نتائج كارثية على الأمن والاقتصاد والسياسة.
في التحليل الأخير، مصر في حاجة إلى مصالحة حقيقية بين كل تياراتها السياسية أولاً، وبينها وبين النظام إن كان جادّاً في هذا الاتجاه لمجابهة تحدّيات شديدة تواجه الدولة المصرية في كل المجالات، وتطاول الاقتصاد والسياسة والعلاقات الإقليمية والدولية، في ظل حروب على كل الاتجاهات قد تغيّر خريطة المنطقة، وهي بالتأكيد أكبر من النظام السياسي المصري، بوضعه الراهن، والذي لم يستطع أن يوقف "صفقة القرن"، أو يعيد التموضع في إطارها، رغم أن الرئيس الأميركي المرتقب، ترامب، يعتبره ديكتاتوره المفضل. وأثبتت الحرب الدائرة أنه قاب قوسين أو أدنى من فقدان دوره التقليدي في الوساطة في حلقات الصراع العربي الإسرائيلي، وبالذات على ساحة غزّة التي لطالما لعبت مصر دوراً وظيفياً في إطفاء الحروب الخاطفة والتوصل إلى تهدئة وتفاهمات ولو هشّة بشأن إعادة الإعمار، وهي حالياً عرضة للتهجير وتحمل تبعاته القاسية، رغم إعلانها رفضه مراراً وتكراراً، لكن من دون فعل يستطيع إيقافه.