"قناع بلون السماء"... جائزة بطعم المُقاومة
كتب باسم خندقجي روايته "قناع بلون السماء"، وهو في السجن، بعيداً عن أعين سجّانيه الصهاينة، على ما تيسّر له من قصاصات ورقية وكرتونية، وهرّبها صفحةً بعد صفحة، لتنشرها دار الآداب في بيروت، ثمّ لتفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر). وبدلاً من أن يتسّلم جائزته حُرّاً ويفرح بها بين أهله ومُحبّيه وقُرّائِه، استدعته في ذات الليلة إدارة السجن، الذي يقبع فيه منذ 20 عاماً، لتحكُم عليه بسجنٍ انفرادي، إضافة إلى غرامة ماليّة جديدة، عقاباً له على الكتابة ثم الفوز (!)
عندما أُعلن فوز الرواية بالجائزة، متفوّقةً على 133 رواية تقدّم أصحابها للجائزة، خَشيتُ أن يكون الفوز لأسبابٍ تتعلّق بظروف كاتبها المُعْتَقَل، باسم خندقجي، والتعاطفِ معه في ظلّ ما تمرّ به القضية الفلسطينية من مُنعطفاتٍ قاسيةٍ وحادّةٍ مُتمثّلةً في العدوان على غزّة، منذ نصف سنة، لأنّي لم أكن قد قرأت الرواية بعد، مع أنّي قرأت الروايات الأخرى التي وصلت إلى القائمة القصيرة معها، ولهذا اتجهت منذ إعلان النتيجة إلى قراءتها، فانتهيتُ منها خلال جلستين، لأصل إلى أنّه فوزٌ مُستحقٌّ، بغض النظر عن ظروف الكاتب ومنعطفات القضية، فقد ذهب خندقجي بفكرة الرواية بعيداً، وخارج أسوار سجنه، ليحلّق في خيال التجريب الذي حوّل من خلاله شابّاً فلسطينياً إلى شابّ "إسرائيلي"، بواسطة بطاقة هوّية وجدها في معطفٍ اشتراه من سوق للأغراض المُستعمَلَة، فمضى بتلك الهوّية يجرّب أن يعيش الآخر بكل جوارحه تقريباً، وأن يغوص في التاريخ بعيداً جداً حتى يصل إلى حقيقةٍ تُلقي بظلالها على ما يعانيه الفلسطيني اليوم في وطنه المُحتلّ. ومما يثير الدهشة أنّ المراجعات التاريخية الناقدة لخندقجي في الرواية دقيقة وواعية جداً، وهي ما تعكس حتماً حجم الجهد الكبير الذي بذله في القراءة في ظروف السجن الصعبة، طوال عقدين، ليصل بالفكرة التاريخية لروايته إلى هذا الحدّ من الأصالة والعمق.
وأتّفق مع لجنة التحكيم، التي وصفت الرواية بأنّها "متعدّدة الطبقات، يميّزها بناء الشخصيات، والتجريب واسترجاع التاريخ وذاكرة الأماكن". وأتفق مع رئيس لجنة التحكيم، الروائي والناقد الكبير نبيل سليمان، حين يقول: "يندغم في (قناع بلون السماء) الشخصي بالسياسي، في أساليب مبتكرة. روايةٌ تغامر في تجريب صيغ سردية جديدة للثلاثية الكبرى: وعي الذات، وعي الآخر، وعي العالم، حيث يرمح التخييل مُفكّكاً الواقع المُعقّد المرير، والتشظّي الأسري، والتهجير والإبادة والعنصرية. كما اشتبكت فيها، وازدهت، جدائل التاريخ والأسطورة والحاضر والعصر، وتوقّد فيها النبضُ الإنسانيُّ الحارُّ ضدّ التخوين، كما توقّدت فيها صبوات الحرية والتحرّر من كل ما يشوّه البشر، أفراداً ومجتمعاتٍ. إنّها رواية تُعلن الحبّ والصداقة هوّيةً للإنسان فوق كل الانتماءات".
وباسم خندقجي، المحكوم بالسجن المؤبّد لدى الاحتلال، مرّات ثلاث، بتهمة المشاركة في عملية أدّت إلى مقتل ثلاثة صهاينة، اعتقل وهو في آخر سنة دراسية له في كلّية الإعلام والصحافة، في 2004، لكن الاعتقال لم يكسر حُلُمَه ولم يقتلْ موهبته في الكتابة، فسبق أن كَتَبَ كُتُبَاً عدّة، خرجت إلى الحرّية بينما بقى مُبْدِعُهَا داخل السجن، منها ديوانان: "طقوس المرّة الأولى" (2010)، و"أنفاس قصيدة ليلية" (2013)، وأربع روايات: "مسك الكفاية" (2014)، و"نرجس العزلة" (2017)، و"خسوف بدر الدين" (2019)، و"أنفاس امرأة مخذولة" (2020)، إضافة إلى الرواية الفائزة "قناع بلون السماء" (2003). وهو ما يُؤكّد أنّ الكتابة لدى خندقجي ليست مجرّد هواية أو موهبة، وإنّما أداةَ مقاومةٍ ونضالٍ حقيقيّ ضدّ الاعتقال والاحتلال والعزلة والنسيان. الحرّية والمجد لك يا باسم.