قمّة قطر التنموية فرصة للتضامن الإنساني

10 مارس 2023

غوتيريس يتحدث في افتتاح مؤتمر الدوحة لدول العالم الأقل نموا (5/3/2023/فرانس برس)

+ الخط -

وسط تصاعد وتيرة الحرب الروسية على أوكرانيا، وأخبار الزلازل والمجاعات، انعقد مؤتمر قمة الدوحة لدول العالم الأقل نموا، على أمل جذب انتباه العالم إلى الكوارث المحتدمة في بلدانٍ تعاني تبعات الكوارث الطبيعية، والصحية، والجيوسياسية، وفي مسعى الأمم المتحدة إلى التقدّم بطلباتٍ جريئةٍ من الدول المتقدّمة للمساعدة من جديد، علما أن اقتصاديات الأخيرة تعاني مشكلاتٍ عديدة، من انخفاض النمو، وارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية، والتضخّم، والمديونية. ويشكّك خبراء في إحراز تقدّم في هذا المجال، حتى قبل "كوفيد 19"، فقد كان النهوض بالالتزامات مخيّبا للآمال، ويحذّرون من تزايد المشكلات في حال عدم التحرّك. ومع ذلك، يشكّل المؤتمر فرصة تاريخية لأكبر قدر من الاهتمام والاستجابة لإلحاحات الطوارئ، والتعاون البنّاء، والعمل متعدّد الأطراف، من أجل الاندماج الكامل في الاقتصاد العالمي (أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس في افتتاح المؤتمر)، ففي حالتي تركيا وسورية، تُسابق الزلازل التنمية. تركيا التي يشهد اقتصادها انهيارات بنيوية، وسورية التي تعاني من مشكلات شرّيرة أوجدها النظام، ومن عدم إرسال المساعدات الإنسانية. وبدت سيطرة النظام على الأراضي الواقعة تحت سيطرته لا تُطاق، ويبدو مستعدّا للاستفادة بشكل مباشر من المساعدات الدولية المخصّصة للسوريين.

في الأثناء، رفع البنك من توقعاته بشأن كلفة الزلزالين الكبيرين اللذين هزّا تركيا وسورية في السادس من فبراير/ شباط، جرّاء الدمار والأضرار المادية المباشرة إلى نحو 38 مليار دولار، فيما رأت نائبة رئيس مجموعة البنك الدولي لأوروبا وآسيا الوسطى، أنا بيردي، الوضع في سورية كارثيا، (تسعة ملايين شخص متضرر بحسب تقديرات الأمم المتحدة) وأطلقت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا) صرخة لتغيير المسار في سورية، وإنهاء أزمةٍ طال أمدها.

ويواجه السوريون الذين نجوا من الزلزال أوضاعا صعبة، في غياب الوقود للتدفئة، والمياه الصالحة للشرب والكهرباء، فضلاً عن تعرّضهم لخطر انهيار المباني عليهم في أثناء بحثهم عن مأوى. وأصبح الوضع الإنساني في شمال غربي سورية شديد السوء، حيث يعتمد 4.1 ملايين شخص على المساعدات الإنسانية من أجل البقاء على قيد الحياة. وكان أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، قد شدّد في افتتاح أعمال القمة التي ضمّت ممثلين عن 46 دولة أفريقية وآسيوية، ومن المحيط الهادئ، على "الصعوبات التي تواجه وصول تلك المساعدات إلى سورية، وأبعد من سورية"، وأشار إلى "الصعوبات التي تعاني منها البلدان الأقلّ نموا، وأنها مسألة بنيوية متعلقة بغياب التفاعلية بين المراكز الصناعية المتقدّمة، وبين الأطراف، وهي قضية عالمية". هذا ما يجب أن تدركه الدول المتقدّمة ومجتمعاتها، المدعوّة إلى تقديم 500 مليار دولار سنويا، لمساعدة تلك الدول العالقة في حلقاتٍ مفرغة، تعرقل جهودها الرامية إلى تعزيز اقتصادياتها. وترى الأمينة التنفيذية لـ "إسكوا"، رولا دشتي، أن البلدان المتأثرة بالصراعات ليست لديها الجاهزية ولا القدرة على مواجهة الأزمات الناشئة والكوارث الطبيعية، وستكون للزلزال تداعيات كارثية على أوضاع اقتصادية واجتماعية متردّية أصلاً مع تداعيات جائحة كوفيد - 19، وفترات الجفاف خلال السنوات الماضية، وتعدّ نسبة النازحين داخلياً وخارجياً أرقاماً مذهلة في الشرق الأوسط، مع زيادة الأشخاص المعرّضين للخطر والفقر والتشرّد في العالم.

أصبح الوضع الإنساني في شمال غربي سورية شديد السوء، حيث يعتمد 4.1 ملايين شخص على المساعدات الإنسانية من أجل البقاء على قيد الحياة

ولذلك، الاستجابة التي يطرحها مؤتمر الدوحة مهمة لتجسيد تعهدات الدول المعلنة أخيرا، عبر تقديم ما بين 0.15% و0.20% من إجمالي دخلها الوطني للمساعدة في التنمية في الدول الفقيرة، ولتوسيع نطاق الإغاثة وتسريعها، ومعالجة العقبات التي تعترض تدفّق التحويلات، والتركيز على نهج شامل وتشاركي للإغاثة، وإدماج النوع الاجتماعي في إدارة مخاطر الكوارث، والتركيز على الفئات الأثر تضرّرا بشكل أكبر، من نساء وأطفال وكبار السن. صرخة غوتيريس في قطر حقيقية بوجه عالم من اللامساوة، حتى في مقاربة التفاوتات (هايتي مثالا آخر..)، إزاء المرجعيات المركزية، والناس في الأطراف معزولون ومتباعدون عن اهتمامات المنظّرين والمحرّكين في العالم الدولي، فالذين يموتون هم الفقراء أمام برجوازية عالمية معولمة، وجرّاء إحباطات في حياة الناس من الجماعة الدولية، وسياساتها الاجتماعية التي يمكن توجيهها إلى ما يمكن أن يكون إعادة توزيع اهتمامات بمسائل المناخ، والبيئة والكوارث والغذاء والفقر ومعدّلات الأمل بالحياة نفسها، في بلدان تلتهمها نيران الحرب (أوكرانيا).

وتعكس أرقام البنك الدولي والأمم المتحدة خيبات إزاء ما يتبقى معها من النمو الاقتصادي والتنمية، مقارنة مع مقياس دراسة الثروات العامية وتوزّعها في حدود ثلاثمائة ألف مليار دولار؛ 83،4 % منها في حيازة 8،4% من عدد سكّان العالم (أوكسفام)، 1% من البشر يملكون حوالي نصف الثروة العالمية. إذن، من المهم الدفع باتجاه عودة الاجتماعي من أجل مكافحة اللامساواة (برتران بادي)، ربما عبر منصّة اقتطاع ضرائبي على الصعيد العالمي لمواجهة كوارث مماثلة، أو تشكيل أنواع من التعبئة، فالعالم لا يريد أن يموت، لا في حرب البشر، ولا في حرب الطبيعة. ويؤمل أن تُترجم التصريحات إلى وقائع (أعلن الشيخ تميم عن مساهمة مالية فورية في هذا الصدد، قدرها 60 مليون دولار)، وإلا يسقط سقف الموت، يصادف على دول دون سواها.

لدى محبي الإنسانية فرصة للمساعدة، أي عولمة تضامنية، لتعزيز اقتصاديات الدول الفقيرة

لا يعني هذا غياب أشكال من التضامنات من دول غنية في الشمال والجنوب، في ظل نظام علاقات دولية معقد، ومعاناة تؤويها المدن الحديثة مع مقادير الفارّين هربا في مناطق الغيتو، وأحياء التمييز والفقر في الضواحي، ومن مناطق النزاعات (800 مليون شخص في العالم)، نزاعات وتفاوتات تجد أنموذجا سياسيا مرعبا، يحيل إلى فكرة الكرامة الإنسانية التي لا تتفق مع خريطة مؤشّر التنمية البشرية، لجهة التفكّكات الاجتماعية والانهيارات الاقتصادية، ومع عدم قبول توزيع الحصص من الثروات على نحو أكثر عدلا، وأزمات يستخدمها قادة دول، وجماعات مسؤولة عن مآسي شعوبها، وتحاول إعادة تأهيل نفسها في المجتمع الدولي، ولا تزال في ازدياد مستمرّ، وتتوقع مكافآت الإفلات من العقاب التي ستؤدّي إلى عدم الاستقرار في المستقبل.

لدى محبّي الإنسانية فرصة للمساعدة، أي عولمة تضامنية، لتعزيز اقتصاديات الدول الفقيرة، وإلا ستدفع الأجيال الجديدة ما دفعته أجيال السبعينيات والثمانينيات، وأجيال الحربين العالميتين. أكثرمن ذلك، يملك العالم فرصة وحيدة هي العيش معا اجتماعيا. يتمتع مؤتمر قطر في توقيته بوجهة نظر حساسة، صافية، للعمل متعدّد الأطراف (وزير الخارجية القطري محمد عبد الرحمن آل ثاني). هو فرصة لتقديم المزيد من المساعدات وإيصالها إلى مستحقّيها، وتعزيز الثقة مجدّدا بمعابر مفتوحة في قطر إلى العالمية الإنسانية.

يقظان التقي
يقظان التقي
إعلامي وأكاديمي ومترجم لبناني، له عدد من الكتب، دكتوراة في الدبلوماسية والعلاقات الدولية.