قمتا جدّة وطهران والرد الروسي
فشل الرئيس الأميركي، بايدن، في الحصول على وعود إيجابية بخصوص زيادة واردات الطاقة أو تعزيز التنسيق الأمني والعسكري مع إسرائيل. وبالتأكيد، ليس هناك تغيير في سياسات دول الخليج التي خرجت عن التبعية للولايات المتحدة. صحيح أن اثنتين من هذه الدول تشهدان علاقات متسارعة مع إسرائيل، ولكن أن يقول الرئيس الأميركي إنه ليس من الضرورة أن يكون المرء يهودياً ليكون صهيونياً، وإنه صهيوني، فهذا يعني أن أميركا ليست معنيةً بالدفاع عن دول المنطقة، أو أنها ستقيم معها علاقاتٍ متساوية، بل تريدها خاضعة لإسرائيل، وهذا ما قاله بايدن بأنه يريد لإسرائيل أن تكون متفوقة.
أفكار بايدن هذه لا تشجع مطلقاً دول المنطقة، وتحديداً دول الخليج، على الانتقال من عدم الثقة إلى الثقة المفرطة بأميركا، كما كان يشتهي بايدن. عكس ذلك، بدت تلك الدول مهتمةً بإعادة العلاقات مع إيران، وقد صرحت كل من السعودية والإمارات بخصوص ذلك في أثناء الزيارة، وبالتالي، التنسيق مع إسرائيل لا يعني مواجهة إيران؛ تختلف إسرائيل في ذلك، حيث تريد تلك المواجهة، وحتى أميركا لا تتفق مع إسرائيل حيث تستمر بالمفاوضات النووية، رغم تعثرها أخيراً. دول الخليج واعية لهذا الأمر، وقد طالبت، سنوات طويلة، بإيقاف ذلك الاتفاق، كما فعل الرئيس السابق، ترامب، وبالتالي، وما دامت أميركا ساعية نحو إيران، فالأحق بتلك الدول أن تُحسّن هي علاقاتها مع إيران، وهذا ما تريده الأخيرة عبر الوساطة العراقية للتقارب، وعبر العلاقات التي تعقدها دول الخليج وإيران مع روسيا والصين، وتجدان في ذلك بديلاً من العزلة والغطرسة الأميركية وسياساتها الانتقادية بخصوص ملف حقوق الإنسان والديموقراطية.
بوتين، المعزول أوروبيّاً وأميركيّاً، سيذهب إلى كل قمّة يدعى إليها
لم يتأخر بوتين عن زيارة طهران، رغم الحديث عن كونها مبرمجة منذ أشهرٍ. بوتين، المعزول أوروبيّاً وأميركيّاً، سيذهب إلى كل قمّة يدعى إليها، فهو بذلك يعيد الثقة لنفسه، فكيف إن كان مكان اللقاء طهران، حيث بين الدولتين مصالح مشتركة كثيرة، ووقعتا اتفاقيات اقتصادية وعسكرية وأمنية كثيرة، وهما معاقبتان أميركياً وأوروبياً، وهما توجدان في اتفاقيات عديدة، بريكس وشنغهاي مثلاً، وهذا يأتي بعد العلاقة الوثيقة بين طهران والصين، والاستنتاج المباشر هنا أن بوتين يريد تشكيل حلف قويّ، رأسه روسيا والصين وإيران والمحيط الأوراسي ودول البريكس وشنغهاي، وهذا بدوره يعزّز عسكرة العالم وتحويله إلى أحلاف.
أن تنعقد قمة بين الرؤساء، التركي والروسي والإيراني، رغم أن دولة الأول ضمن حلف شمال الأطلسي، ولم يستطع الأخير جذبها إلى تطبيق العقوبات على روسيا كما فعلت دول الحلف، بل وعزّزت تركيا علاقاتها مع روسيا، وتحاول الاستمرار بسياسة الحياد بين أوكرانيا وروسيا، ولعب دور الوسيط بينهما، ونجحت في عقد اتفاقٍ لنقل الحبوب، وقد يضع بوتين توقيعه عليه بطلب من أردوغان في طهران. أكثر من ذلك، يسعى الرئيسان، أردوغان ورئيسي، لأن تكون العلاقة بين بلديهما تعاوناً استراتيجياً، وأن تتجاوز العلاقات التجارية الـ30 مليار دولار. الموضوع الأوكراني أحد مواضيع النقاش في طهران بين التركي والروسي، ورغم أن اللقاء ينعقد بصورة أساسية استكمالاً لمسار أستانة، الخاص بمتابعة الشأن السوري، ومناقشة العملية العسكرية التركية المحتملة.
الاتفاقات الصينية والروسية ليس بمقدورها حل المشكلات المستعصية في إيران، ولم تغادر تركيا موقعها البيْن بيْن، بين روسيا وحلف الناتو
أن يأتي بوتين إلى طهران، فهذا مؤشّر على فشل بايدن، ورد مباشر على الأخير في جدّة، وليس على دول الخليج، التي زارها قبل أزيد من شهر وزير الخارجية الروسي، لافروف، من أجل تعزيز العلاقات، وهو ما تحبّذه تلك الدول، حيث تخلت أميركا عن رعايتها، وتعاملت مع سياساتها برفضٍ كبير، وحتى ترامب ابتزّ تلك الدول، وأساء إلى أنظمتها بصورة كبيرة. وبالتالي، في ظل أزمة عالمية كبيرة، كالحرب الروسية على أوكرانيا، استغلت تلك الدول الحاجة الأميركية للمهادنة معها، ولا سيما أن بايدن أتى من أجل حل مشكلة نقص موارد الطاقة في أوروبا خصوصاً، واستبدال الخليجية منها بالروسية. يعي قادة الخليج ذلك جيداً، وثقتهم منهارة بالأميركان، وبالتالي، لم تكن زيارة بايدن، التي كثرت فيها الاتفاقيات بين أميركا والسعودية، أكثر من محاولة لتداول الأراء، لتتمكّن واشنطن من التفكير العقلاني والهادئ، ولتُدفَع إلى انتهاج سياسة أميركية جديدة وجادّة تجاه الخليج. وبالتأكيد، يجب أن تطوي أخطاء بايدن باعتبار نفسه صهيونياً، وإيجاد حل للقضية الفلسطينية، وتهميش إعلان القدس الذي يتجاهل الحقوق الفلسطينية، وفي مقدمتها أن تكون القدس عاصمة فلسطين وتنفيذ حل الدولتين.
تبدو دول الخليج غير راغبة في الانخراط بالتحالفات الدولية، وحتى إسرائيل لديها انتقادات للسياسات الأميركية، ولا سيما رؤية الأخيرة عن ضرورة الاتفاق النووي. تركيا أيضاً تتحفّظ على تلك السياسات، ولا سيما بما يتعلق الأكراد في سورية، وتتبنّى الحياد رغم أنّها عضوٌ في حلف الناتو، وترفض استمرار العقوبات على إيران. الرئيس الأميركي يطلب من دول الخليج الانخراط ضمن سياسات حلف الناتو وعزل روسيا، حيث أكد أن أحد أهداف زياراته عدم ترك المنطقة لروسيا أو الصين، وبالتأكيد ليس لإيران، أي بعكس سياساته السابقة، ومنذ ترك الأميركان المنطقة بأكملها بفم طهران، ولكن ليس من ثقة خليجية في السياسات الجديدة هذه.
يعزّز مؤتمر طهران علاقات الدول الثلاث، ودول الخليج لا ترى هذا إيجابياً؛ لم تناقش محاور النقاش في طهران التدخل الإقليمي لإيران في الدول العربية، ولم تناقش تدخلية الدور التركي في سورية أو العراق، ولم تعمل من أجل إنهاء الملف السوري أو اليمني، وهي قضايا عربية بامتياز، وتهمّ كل الدول العربية وليس فقط الخليج. سياسات الدول الثلاثة وكذلك سياسات بايدن المحابية لإسرائيل تدفع الدول العربية إلى إعادة علاقاتها مع الدول المحيطة بها، من زاوية مصالحها. ولهذا تنامت العلاقات بين الدول العربية وتركيا وإسرائيل وإيران.
مشكلة الدول العربية غياب سياسات متحدة فيما بينها، ومرجعية في العلاقة مع الدول الإقليمية، وبالتالي، "تصطادها" إسرائيل تارة أو إيران أو تركيا
مشكلة الدول العربية في غياب سياسات متحدة فيما بينها، وكمرجعية في العلاقة مع الدول الإقليمية، وبالتالي، "تصطادها" إسرائيل تارة أو إيران أو تركيا، وتكون عرضة لعلاقاتٍ غير متكافئة مع أميركا أو روسيا. في الأزمة التي تتصاعد عالمياً، تتجه الدول العربية إلى عدم الاصطفاف مع روسيا أو الصين أو أميركا. ولهذا، لن تستجيب لرغبات بايدن في الانحياز إلى حلف الناتو أو تطبيق العقوبات على روسيا، وعلى الضفة الأخرى، لن تستجيب لرغبات بوتين في الوقوف معه ضد أوكرانيا. الحياد سياسة معقدة للغاية في عالم يتعسكر بقوة شديدة، ولكنه الخيار الأفضل للدول "الضعيفة".
هل ستتمكّن روسيا من تشكيل قطبٍ جديد مع إيران وتركيا؟ لإيران مصالح كبرى مع روسيا، والآن تتجه الدولتان إلى إقامة علاقات استراتيجية بينهما، وهذا لن يتغيّر في حال الوصول إلى الاتفاق النووي، ولكنه سيسمح لإيران بالقدرة على "الحيادية" في العلاقة مع دول العالم الأساسية، وبالتالي، ستباشر سياسة دولية أقرب إلى دول الخليج؛ طبعاً إن أعيد العمل بالاتفاق النووي.
مشكلة إيران مع دول المنطقة، وكذلك تركيا ستظل قائمة، رغم كل محاولات التقارب معها، وحتى روسيا لن تكون بديلاً لأميركا، ولكن الأخيرة تحتاج سياسات جديدة تدفع الدول الخليجية نحو علاقات أكثر موثوقية. إذاً، رغم القمتين الأساسيتين في جدّة وطهران، الهامتين، ورغم الاتفاقيات التي عقدت، والكلام عن علاقات استراتيجية، لا تزال المنطقة تعاني من المشكلات السابقة لزيارة الزعيمين؛ فلا رغبة عربية في التطبيع الكامل مع إسرائيل، ولا الخليج المتّجه نحو علاقاتٍ مع دولٍ وازنة عالمياً عزّز ثقته بأميركا من جديد، ولبى الحاجة الأميركية للطاقة، والعقوبات مستمرّة على طهران، والاتفاقات الصينية والروسية ليس بمقدورها حل المشكلات المستعصية في إيران، ولم تغادر تركيا موقعها البيْن بيْن، بين روسيا وحلف الناتو.