قلب بغداد الشائخ
حتى العام 2003 كانت غالبية السيارات في شوارع بغداد قديمة وقليلة، وفي مرّة توقّف شابٌّ بسيارة حديثة نسبياً وحيّا صاحبي الذي يرافقني. كانا زملاء دراسة في الجامعة على ما يبدو. عرض علينا أن يُوصلنا الى أي مكانٍ نرغب. وخلال الطريق، أوضح لنا أنه ليس ذاهباً إلى مكان محدّد. إنه يشعر بالضجر أحياناً، فيتجوّل بسيارته في شوارع بغداد من أجل الترويح عن النفس.
لو أخبرتَ اليوم شابّاً عراقياً يملك سيّارة بأنه يمكنه أن يخرج إلى شوارع بغداد للترويح عن النفس لأطلق ضحكة مجلجلة، فهذه الشوارع صارت مصدراً أساسياً للتوتّر والإزعاج بسبب الزحام الدائم، ليس اليوم، وإنما منذ أكثر من عقد، وربما الفرق أنّ المشكلة صارت مضاعفة وخانقة أكثر. كانت أكثر منطقة مزعجة بالنسبة لي، في النصف الثاني من التسعينيات، في طريقي من بيتي في شرقيّ العاصمة حتى منطقة الباب المعظم، هي استدارة ساحة الجامعة المستنصرية، أو ما يعرف شعبياً بـ "ساحة الموّال". لأنها المنطقة الوحيدة خلال الطريق التي تتباطأ فيها السيارات، بسبب الزخم القادم من عدّة شوارع باتجاهها. كانت السيارات تتباطأ ولا تتوقّف. أما اليوم فبالإمكان أن تتوقّع توقّف السيارة التي تستقلّها لعدّة ساعات بسبب الزحام.
سبب الزحام معروف؛ كثرة السيّارات في الشارع، وتهالك البنية التحتية للطرق والجسور والأنفاق التي وُضعت المخطّطات الأساسية لأغلبها في منتصف عقد الثمانينيات، وكانت مناسبة لعدد أقل بكثير من سيارات وقتنا الحالي. أثناء عملي الصحافي، قبل أكثر من عقد، أجابني مدير المرور العامة ببغداد بأن "السياسة" تتدخّل في عمل المرور والضوابط والقوانين الحاكمة لعمل هذه المؤسسة الحيوية. فدخول السيارات يجري بسبب صفقات تجارية لصالح طرف سياسي معيّن. ولهذا فإن أعداد السيّارات تَعْبُر فوق القانون، كما أن استيراد سيارات من نوعية متردّية تسبب حوادث مميتة لراكبيها هو أيضاً بسبب تدخّل السياسة. كان النقل العام هو الوسيلة الأساسية لغالبية المواطنين في التنقل والحركة خلال اليوم قبل العام 2003. أما اليوم فهو لا يشكّل سوى هامشٍ محدود. أما المشاريع الكبرى المتعلّقة بالنقل، ومنها مترو بغداد، الذي أُعلن عنه في العام 1990 وتوقّف أو ألغي بسبب غزو الكويت، ثم العقوبات الاقتصادية الدولية، فما زال ساسة العراق يتحدثون عنه من دون أي خطط واضحة لتنفيذه.
تقوم الحكومة الحالية بعدة مشاريع لفكّ الاختناقات، وبناء "مجسّرات" تعبر فوق التقاطعات المزدحمة، ولكن ردود فعل المواطنين تقلّل من أهمية هذه المشاريع التي تعمل عمل الماكياج لشيخوخة مزمنة للشوارع في بغداد. في الوقت نفسه تطلب الحكومة من أحد السياسيين البارزين أن يفتح شوارع حوّلها هذا السياسي إلى مسار خاص لسياراته، من أجل خدمة آلاف الموظفين والطلبة. ويقطع سياسيون آخرون شوارع فرعية بالكامل تأميناً لمقرّ حزبيّ أو بيت تابع لهم. المشكلة العميقة لا يريد أحدٌ أن يمسّها، وقد تحدّث الخبراء عنها مراراً؛ يجب أن يعاد النظر في المخطط العمراني لمدينة بغداد بشكل جذري. لقد كانت منطقتا الأعظمية والكاظمية، مع مطلع القرن العشرين عند الأطراف البعيدة لبغداد، وكان يجري الحديث بشكل معتاد عن "بغداد والكاظمية" باعتبارهما منطقتين متمايزتين، ولكن الأعظمية والكاظمية الآن في قلب بغداد.
هناك توسّع هائل للأحياء العشوائية، وهناك شطر للبيوت الكبيرة إلى بيوت أصغر. كثافة سكانية كبيرة، وضغط على الخدمات الأساسية، وتركّز للنشاطات الصناعية والتجارية ومقار الدوائر الحكومية والجامعات في قلب بغداد. والأسوأ، هو إشغال المنطقة الخضراء المحصنة ومقارّ الأحزاب عند المفاصل المهمّة في جغرافيا العاصمة، والأفضل بدل الحلول الترقيعية، هو بناء منطقة خضراء جديدة عند أطراف العاصمة، قريبة من مطار بغداد. وإنشاء مجمعات سكنية بخدمات كاملة عند أطراف بغداد أيضاً، في تكرار لتجربة مجمّع "بسمايا" السكني، وهي تجربة ناجحة. لكن الذي يحدث (وأيضاً بسبب تدخّل السياسة) أن المجمعات السكنية الحديثة التي لا يقوى المواطن العادي على شراء عقار فيها، تقام في قلب العاصمة أيضاً. وفي القلب أيضاً تقام "المولات" ومراكز التسوّق.
في المحصّلة، إنّ التخريب المتعمّد لما تبقى من المخطّط الأساسي لمدينة بغداد يجري خارج سلطة الدولة والحكومة، ورغماً عنها، وتبقى الحلول الترقيعية أقصى ما تستطيع أن تفعله.