قطارا صعيد مصر والمسؤول غير المسؤول
عقب أقل من ساعتين من حادث التصادم الأليم بين القطارين في سوهاج، في صعيد مصر، في 26 الشهر الماضي (مارس/ آذار) خرج وزير النقل، الفريق كامل الوزير، ببيان مقتضب يستبق التحقيقات التي تجريها النيابة العامة، ويتصرّف باعتباره الآمر الناهي، ويوجه الاتهام إلى مجهولين شدّوا "بلف الطوارئ". بعدها بدقائق، أصدرت النيابة العامة بيانا طالبت فيه بالتوقف عن إصدار بيانات وتصريحات عن الحادث تستبق نتائج التحقيق. وقد غيّب الوزير عن المؤتمر الصحافي الذي عقده رئيس الوزراء، مصطفى مدبولي، في سوهاج، بعد أن كان قد ووجه باحتجاجات وهتافات غاضبة ومطالبات من الأهالي برحيله، بعد أن حضر إلى موقع الحادث وسط لفيف من الشرطة العسكرية. وفي مؤتمره الصحافي، راح رئيس الوزراء يتحدّث عن خطط التطوير الهائلة واستحالة التوفيق بين عوامل الأمان واستمرارية التشغيل والصيانة والتطوير في وقت متزامن.
في مؤتمره الصحافي، راح رئيس الوزراء يتحدث عن خطط التطوير الهائلة واستحالة التوفيق بين عوامل الأمان واستمرارية التشغيل والصيانة والتطوير في وقت متزامن!
في اليوم التالي، وبعد أقل من 24 ساعة على إعلان الحصيلة الأولية لوفيات حادث سوهاج ومصابيه، أعلنت وزيرة الصحة، في اجتماع مجلس الوزراء، عددا جديدا للوفيات أقل، فبينما أعلنت، في اليوم الأول، أنهم 32 شخصا، ووصلت الإصابات في نهاية اليوم إلى 185 إصابة، عادت لتعلن وفيات 22 حالة مع ثبات عدد الإصابات، ما دعا بعضهم إلى "تفسير" الأمر، ساخرين، بأن أن تكون وزارة الصحة المصرية تحيي الموتى. ولكن هذا قد يبدو منطقيا، في ظل مقارناتٍ نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي بين حادث اصطدام جرار قطار بحاجز في محطة رمسيس في القاهرة، والذي كانت حصيلة الوفيات والمصابين فيه أقل من حادث سوهاج. وبالتالي كانت المطالبات، مبطّنة وصريحة، في تحميل الوزير مسؤوليته السياسية على الأقل والاستقالة، فيما تجنّب رئيس الحكومة أي إشارة إلى مسؤوليته. وفي الاجتماع نفسه، تحدث الوزير عن إنجازات الوزارة وخططها، والأرقام الهائلة المرصودة لخطط التطوير، ويطالب المواطنين بالالتزام بدفع التذاكر، وضبط الباعة الجائلين. وكأنها ليست النقاط التي يدّعى أنصاره أنه قضى عليها، وهو ادّعاء صحيحٌ إلى حد بعيد، فإنجاز الرجل الأكبر ضبط المخالفات وتحصيل الغرامات ومضاعفتها، حتى لو أدت إلى أن يلقي المخالف نفسه من القطار طالما لم يملك ثمن التذكرة، كما لو كان المواطن أرخص من هذه التذكرة.
وفي مداخلةٍ تلفزيونية له، أدلى كامل الوزير بتصريحات تدينه، فيما وجه أصابع الاتهام إلى سائق القطار الخلفي الذي توفي في الحادث، وأبعد كل تهمة عن أي مسؤولين أعلى، بل أعلن، بصوت مرتفع وبلغة أقرب إلى التهديد، استعداده للمحاسبة أمام برلمانٍ يعلم الجميع كيفية تشكيله وانتخابه على عين الأجهزة السيادية. وفي أثناء ذلك، اعترف الرجل بأن هناك اتفاقا على الاعتماد على مهارة السائقين وخبراتهم الشخصية فقط، وترك الخيار لهم في تشغيل أو إيقاف أجهزة التحكّم الأتوماتيكي بالسرعة والإيقاف (ATC)، وأنه اضطر لأخذ هذا الإجراء تحت ضغوط من المواطنين المنزعجين من التأخيرات، وحتى لا تتعطل الرحلات وتأخذ وقتا أطول، لأن هذا النظام يبطئ الحركة تلقائيا في مناطق الصيانة، وقادر على إيقاف القطار أتوماتيكيا، وبشكل فوري، حال وصول إشارة إليه من برج الإشارة بوجود قطار متوقف أمامه أو أي خطر على بعد 600 متر، حتى ولو لم يكن السائق في كابينة القيادة، وهو اختيارٌ يترتب عليه احتمال حدوث مثل تلك الحوادث.
المفارقة أن أنظمة الإشارة وأبراج المراقبة في المنطقة التي وقع بها حادث سوهاج مطوّرة بالكامل منذ شهور!
ولم ينس الوزير المصري أن يذكّر بأن السكك الحديدية في بلده تعطلت بالكامل ستة أشهر بعد ترتيبات "3 يوليو" في العام 2013، بل استدل بها ليبرئ نفسه، باعتباره يراعي مصالح المواطنين. والحقيقة أن كل ما يهم الرجل أن الهيئة لا تحتمل تعطّل إيراداتها مدة مماثلة أو أقل من أجل التحديث، وهو الذي يرفض إصدار اشتراك مجاني أو مخفض لوالدة شخص من ذوي الإعاقة، كما رفض إيقاف المترو أو فرض قيود على حركته، خوفا على الإيرادات وحدها في ظل الجائحة، متسائلا بفهلوة شديدة: "هل فيه حد أصيب بكورونا في المترو؟". والأولى أن يسائل إن كانت الحادثة في سوهاج وقعت في منطقة صيانة، ولماذا لا تتوقف الحركة لأسباب فنية موضوعية، سيتقبلها معظم المواطنين، وتوفر وزارة النقل بدائل، مثلما أوقفتها لظروف سياسية بحتة؟
لم يكد ينتهي اليوم الأول للحادثة، حتى استجدّت حملاتٌ إليكترونية تنطلق تحت مسميات عدة، ما توفر للوزير الحالي من إمكانات وتمويل واعتمادات مالية لم يتوفر لوزير آخر من قبل، وربما لن تتوفر لمن بعده، فهو الذي جيء به من رئاسة الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، باعتباره رجل الكفاءة والانضباط والصرامة، وفوق ذلك الثقة التامة من الرئيس في شخصه، فلماذا تتكرّر هذه الحوادث وتتزايد وتيرتها وضحاياها؟ في اليوم نفسه وُجّهت اتهامات من أنصار الوزير و"المواطنين الشرفاء" إلى الشاب الذي قدم بثا حيا من داخل القطار، طالبا استغاثة المسؤولين، وسرعة إرسال الإسعاف وفرق الإنقاذ، وهو في صدمة وذهول من هول الحادثة، كان الله في عونه وعون من عاينوها جميعا، ورحم شهداءها. وصلت الحماقة بهؤلاء إلى اتهامه بأنه إرهابي وتكفيري وإخواني، لمجرّد تلقف قناة الجزيرة هذا الفيديو الذي بثه. والحقيقة أنه لولا هذا البث لربما تأخرت فرق الإنقاذ والأهالي في الوصول إلى موقع الحادث وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولكانت الحكومة برمتها في أزمة أشد، وموقف أكثر إحراجا.
هيئة سكك حديد مصر لا تكلف نفسها أن تدرج نظاماً للمراقبة الدقيقة والآنية للقطارات بالكاميرات في عرباتها
وبينما حدّث المصريين الرئيس ورئيس الوزراء والوزير وأصحاب الحملة المدافعة عنه عن أهمية ما يقوم به من تطوير، وأن هذه الحوادث واردة في أثناء عملية التطوير، وأنها تحدث في كل بلاد الدنيا، فإن المفارقة أن أنظمة الإشارة وأبراج المراقبة في المنطقة التي وقع بها الحادث هي مطورة بالكامل منذ شهور. ووفقا لتصريحات الوزير، فإن برج الإشارة في طهطا تم تطويره وتشغيله في 20 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ويحقق أعلى معدلات الأمان، وفقا للوزير نفسه، عن طريق شركة "تاليس" الإسبانية العالمية بنظام إلكتروني حديث (EIS)، والذي يحقق أعلى معدلات الأمان، والحاصل على شهادة "SIL4"، وسبقه دخول برج المراغة الخدمة في 8 سبتمير/ أيلول 2020. وبالتالي، إما أن يقول إن الشركة لم تقم بعملها على الوجه الصحيح، والأنظمة لا تشتغل، وهنا نصبح أمام فساد كبير في هذه الصفقة، ويجب محاسبة كامل الوزير، ويحق لأهالي الضحايا أن يرفعوا قضايا على هذه الشركة. وعندما يقول إنه أمر بتعطيل نظام الإشارات وتشغيل الأمور بالفهلوة، لكي ينجز بقية عملية التطوير والتحديث التي يتحدّث عنها، ويعير المواطنين بها، مع العلم بمخاطر حدوث حوادث من هذا النوع، فإنه هنا مسؤول مسؤولية جنائية وسياسية مباشرة عن هذا الحادث. المفارقة الأخرى أن كاميرات أحد المحال وثقت فيديو للحادث، وكان القطار الأول يتحرّك فيه ببطء، ما يعني خطأ كلام الوزير عن أنه كان متوقفا في أثناء الاصطدام على الأقل.
بالتأكيد، من شدّوا فرامل الطوارئ مجهولون، وسيظلون كذلك في كل حادث، لأن الهيئة القومية لسكك حديد مصر لا تكلف نفسها أن تدرج نظاما للمراقبة الدقيقة والآنية للقطارات بالكاميرات في كل عرباتها، مرتبط بغرفة عمليات مركزية، تساعد في تجنيب الهيئة مثل تلك الحوادث، وتجنب المواطنين حوادث السرقة والتحرّش والمشاجرات المتكررة. وإذا كان هؤلاء مجهولين، فمن هم الذين يتخذون قراراتٍ بأولوية الاستثمار في "مونوريل العاصمة"، والخطوط السريعة لا تخدم إلا أقل من 1% من الشعب المصري، هم أصحاب الشاليهات والفيلات والشقق الفاخرة في العين السخنة والعاصمة الإدارية الجديدة والعلمين الجديدة، من دون التعجيل بإنهاء تحديث نظم الإشارة أو إنهاء الازدواجات المطلوبة للخطوط القديمة. ومن يحدّدون أولويات السياسات والإنفاق بعيدا عن أولويات المواطنين معلومون بالضرورة.