قضية الدجاج ودجاج القضية
القضية الوطنية الأولى في مصر الآن هي الدجاج البرازيلي المجمّد. تخيل معي أمةً كانت رائدة في كل شيء من التعليم إلى الثقافة والفنون والزراعة والصناعة، تنام وتصحو على جدلية أيهما أفضل: استيراد الأعلاف للدجاج المحلي أم استيراد الدجاج مجمّدًا من البرازيل، من هناك من أقصى غرب الكرة الأرضية؟
أجواء تعيد إلى الأذهان ما كان يجري في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وبالتحديد بعد أن طرح أنور السادات ورقة أكتوبر الشهيرة، مدشنًا مصر جديدة تدير ظهرها للزراعة والصناعة، وتتحوّل إلى سوبر ماركت شهير، تستورد ولا تنتج، تستدين وتستكين، وتسمّي ذلك كله عصر الانفتاح الاقتصادي، أو بتعبير الراحل أحمد بهاء الدين "انفتاح السداح مداح"، أو باصطلاح أصوات اليسار في ذلك الوقت انفتاح الهليبة والانتهازيين ومصّاصي دماء الشعوب.
سنوات عشر عجاف ومصر لا تتحدّث إلا عن الفلوس والأكل، من رأس الدولة الذي لا يتوقف عن طلب الفلوس من الدائنين والمانحين، وليس انتهاء بإعلام متفرّغ لتقريع المواطنين على حبّهم الطعام ومطالبتهم بالتخلّي عن عاداتهم الغذائية.
في هذا المناخ، صار "الاعتلاف" قضية الوطن الأولى ووحدة قياس حقوق الإنسان، إذا حدّثها أحد عن حرية التعبير والحقّ في الاختلاف والمعارضة والنقد والاحتجاج، باعتبارها أبجديات حقوق الإنسان في العالم كله، يكون الرد أن إطعام أكثر من مائة مليون بطن خاوية هو المعنى الحقيقي لكل تلك الحقوق التي يتشدّق بها السياسيون والحقوقيون.
ولأن الدجاج بالدجاج يُذكر، تبقي ملفتة هذه الحالة الداجنة التي تعتري عديد الأصوات التي لا تزال متشبثة بروحها الإقصائية الاستئصالية للخصوم السياسيين، حتى بعد أن تجرّعت تلك الأصوات من كأس القمع والتنكيل ذاتها التي تدور منذ عشر سنوات.
يكتب المهندس يحيى حسين عبد الهادي مقالًا محترمًا على صفحته في "فيسبوك"، يطالب فيه بالإفراج عن الجميع، بمن فيهم الإخوان المسلمين، من زنازين النظام، تلك الزنازين التي عرفها عبد الهادي وكابد برودتها وقيظها وقسوتها أكثر من 42 شهرًا، وهو الضابط المهندس النابه في القوات المسلحة سابقًا، من دون تهمة سوى التعبير عن آرائه السياسية والفكرية بشكل هادئ ورزين على مواقع التواصل الاجتماعي.
يوجّه الرجل حديثه إلى قيادة الحركة المدنية الديمقراطية، التي ساهم في تأسيسها قبل سجنه، ناصحًا بأنه "يجب أن نسمو بمواقفنا عن مستوى التعبير عن حركتنا وتيّارنا فقط إلى التعبير عن الجميع بمن فيهم المختلفين معنا ودون انتظار تفويضٍ منهم .. فمكافحة الظلم لا تحتاج إلى تفويض .. أتحدث عن الإخوان تحديداً .. عالِماً بأن الحديث الرحيم عنهم جَلَّابٌ للمشاكل". ثم يتساءل "لماذا اقتصرت المطالبات بالإفراج عن أسماء بعينها (كُنْتُ واحداً منها) ولَم تقترب من أسماء لم يعد نُطقُها مسموحاً إلا مصحوباً باللعنات والبذاءات .. أسماء كمحمد بديع وخيرت الشاطر وسعد الكتاتنى ومحمد البلتاجى وغيرهم، صار نُطقها من نواقض الوضوء الوطنية".
طرحٌ هادئٌ وتساؤلٌ واجبٌ ولازمٌ في هذه الفترة التي ينحشر فيها الوطن كله، بسلطاته ومعارضاته، في نفقٍ ضيق من الهوان على البعيد والقريب، ويصير مادّة للسخرية والتندّر عند أصحاب سياسة "إرضاع البلد الكبير من أجل إخضاعه"، فإذا ما غضبوا عليه أهانوه وعيّروه بفقره وجوعه.
غير أن هذا الطرح لم يعجب ديوك ما تسمّى الحركة المدنية الديمقراطية الإقصائية الاستئصالية، والتي يتحدّث باسمها الآن من خرج لتوّه من عنبر التأديب والتهذيب الذي يزجّ فيه النظام أبناءه المخلصين إن خرجوا على النصّ واجتهدوا، ثم يعود ويعفو عنهم بعد إعادة هيكلتهم. يرد خالد داود، العائد من عنبر التأديب، على يحيى حسين عبد الهادي، في مقال مثير للأسى، يعلن فيه رفض الحركة التنازل عن نهجها الإقصائي الاستئصالي للإخوان المسلمين، ولكل من يتخذ موقفًا راديكاليا معارضًا لنظام الثلاثين من يونيو، فيكتب: "أستاذي المهندس يحيى على يقين أن ذلك الموقف يختلف تمامًا عن الخطاب الرسمي لقادة جماعة الإخوان المتمسكين بوصف 30 يونيو و3 يوليو بـ"الانقلاب"، والذين اتخذ عداؤهم للنظام الحالي بعدًا شخصيًا لا يضع في الاعتبار مطلقًا مصالح الوطن وما يزيد عن مئة مليون مصري ستزداد أوضاعهم صعوبة وبؤسًا، لو سادت الفوضى بسبب الرغبة في تصفية الحسابات مع النظام الحالي. الأمر أعقد بكثير من شعارات فولتير وكل فلاسفة الليبرالية وحقوق الإنسان".
ويقول في موضع آخر: "لن أقول إن ما طرحه أستاذي يحيى أمر شديد المثالية لا صلة له بالواقع الذي عشناه منذ 3 يوليو 2013. ولكن المطالبة هكذا بالمطلق بإخلاء سبيل كل من أدانتهم محاكم أمن الدولة العليا طوارئ، بمن فيهم من ثبت تورّطهم مباشرة في جرائم قتل وتفجير، هو أمر صعب القبول في أي دولة تدعي سيادة القانون".
الإشكالية هنا أن العائد من تجربة حبس احتياطي تأديبي قابل خلالها عشرات من السياسيين النبلاء المسجونين ظلمًا، بعد محاكمات استثنائية جائرة وغير طبيعية، ينصّب نفسه مدافعًا عن "أمن الدولة العليا طوارئ". وفي الوقت ذاته، هو المتحدث باسم ما توصف بأنها "الحركة المدنية الديمقراطية". وأزعم أن هذا الجمع بين الصفتين، أو الوظيفيتين، يحمل تناقضًا منطقيًا وجوهريًا، فليت الأستاذ خالد يحدّد لنا باسم من يصيح، وأي وظيفة يشغل "متحدّث باسم أمن الدولة العليا طوارئ" أم باسم "الحركة المدنية الديمقراطية"، لأن من المروّع أن نفترض أن الجهتين موصولتان ببعضهما بعضا. أما بكاؤه الحارّ على وجود من يرى في 30 يونيو و3 يوليو انقلابًا عسكريًا، فتلك بحد ذاتها من المضحكات المبكيات، ذلك أن أن أحدًا عاقلًا في هذا الكوكب لم يعد يجادل في أن ما جرى كان انقلابًا واضح السمات والقسمات، بل إن كثيرين من رفقاء الأستاذ خالد الديمقراطيين المدنيين جدًا لم يعد يرى مخرجًا من هذا النفق المظلم إلا في استدعاء انقلاب على الانقلاب.
كان الله في عون المواطن المحاصَر ببرودة الدجاج المجمّد وضوضاء الدجاج الحي.