قصة لوتز كايزر ... "إمبراطور الصواريخ"!

30 مايو 2023
+ الخط -

هي فعلا قصة جديرة بفيلم هوليوودي تلك التي تروي سيرة مهندس ألمانيّ أراد إرسال أقمار صناعية تجارية إلى الفضاء، متقدّما بذلك على الثري المعروف إيلون ماسك بأربعة عقود، فكان أن تورّط بعلاقاتٍ سياسيةٍ مشبوهة، وانتهى معزولا على جزيرة! فقد كان من سوء حظ لوتز كايزر (1937 - 2017)، الذي لُقّب بإمبراطور الصواريخ، أن حلمه تزامن مع حربٍ باردة جعلت تحقيقه أمرا مستحيلا، خصوصا مع تضافر جهود الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وفرنسا لمنعه من ذلك، وتقرّبه من زعماء مشبوهين، مثل معمّر القذافي وصدّام حسين اللذيْن كان يُخشى أن يستغلا المشروع لأغراض عسكرية. 
في كتاب صدر أخيرا بعنوان "المشروع ووتان"، تروي الصحافية الفرنسية جويل ستولز التي عملت مراسلة لكبريات الصحف الفرنسية (ليبراسيون، لوموند، إلخ)، كيف أسس كايزر شركة "أوتراغ"، عام 1975، بدعم من الحكومة الألمانية وبمؤازرة زميلين عالمين شهيرين من أولئك الذين استخدمهم هتلر، وقامت من ثم الولايات المتحدة بتوظيفهم، حين اكتشفت أن أعمالهم في المختبرات السرّية تتقدّم عليها بنحو 25 عاما (وظفت 1600 عالم ألماني تعاونوا مع النازية). إلا أن رفض شركات التأمين تبنّي مشروع إطلاق صواريخ تحمل أقمارا صناعية، انطلاقا من ألمانيا أو من أوروبا، لما في ذلك من مخاطر وقوع حوادث وأضرار، دفعه إلى الذهاب إلى زائير، بناء على نصيحة أحد زملائه المقرّبين من زعيمها، فجلّ ما كان الألماني يحتاجه صحراء خالية تكون قريبة من خط الاستواء، وهو ما توفّره زائير بمساحاتها الشاسعة وحلمُ رئيسها بأن يكون أول زعيم أفريقي يمتلك قمرا صناعيا. 
أما طلب موبوتو حين قابله فجاء كالتالي: "لديّ في هذا البلد ثلاثمائة قبيلة تتكاره وتتحارب غالبا، أنا محاطٌ بجيران معادين يريدون قتلي، وحدودنا ضخمة وينبغي مراقبتها. أريد أن أرى كل فأر موجود على جانبي هذه الحدود. إذا نجحت، عِدني بأن القمر الصناعي الأول سيكون لي". قبل أن يردف أنه يمنحه أرضا تبلغ مساحتها مائة ألف كلم مربع، "بالإضافة إلى عشرين مليون دولار سنويا لحقوق الإيجار". أما حجة الإقناع التي استخدمها لوتز، فجاءت كالتالي: "ما تقوم به وكالة ناسا هو أشبه بنقل أكياس الإسمنت في سيارة رولز رايس ... ما نريده نحن هو بناء شاحنة. لن نكون منافسين لهم حقّا لأننا لا نهدف إلى تحقيق رحلاتٍ بشريةٍ إلى الفضاء، إذ يتجاوز الأمر قدراتنا بشكل واضح، ناهيك عن أن الأميركيين أصدقاؤنا"... 
وبالفعل، هذا ما طبقّه لوتز الذي أصبح أول مطوّر تجاري لتكنولوجيا الصواريخ، وهي التقنية الثورية والبسيطة القائمة على تطبيق أنماط الإنتاج الضخم المألوفة، مع خفض التكاليف بنسبة 90%، من خلال استخدام مواد أرخص بكثير. لكن، بعد ثلاثة اختبارات غير مثمرة، وضغوط عدّة مورست على موبوتو من جيرانه وحلفائه الغربيين، وتحديدا من بريجنيف، وضع حدّا للمغامرة عام 1979، تبعته الحكومة الألمانية بتوقفّها أيضا عن دعم المشروع.
عام 1980، انتقل لوتز بمشروعه إلى ليبيا، ترافقه زوجته سوزي التي وصفت الديكتاتور الليبي بأفضل الأوصاف في عدة مقابلات وأفلام وثائقية.  لكن، مع انتهاء الثمانينيات، بدأ الرجل الذي وصفه لوتز بأنه "رجل الديبلوماسية في السياسة الداخلية"، يتحوّل إلى "كاريكاتور لرجل كبير سابق"،  بدليل أنهما لم يرياه أكثر من ثلاث مرّات خلال 20 عاما، إذ كان "ربما يتفادى أصدقاءه القدامى لشعوره بالعار". في العام 2000، تعب لوتز من العيش في ليبيا التي كانت تنزلق برأيه نحو الفوضى، فغادرها إلى جزر مارشال حيث انتهى وزوجته وحيدين ومعزولين. 
خلاصة القول، إن مشروع "أوتراغ" الذي ما زال يثير الاهتمام والتكهّنات، نفّذ في ليبيا وحدها 11 محاولة (1984) باءت كلها بالفشل، وإن المغامرة التي انطلقت عام 1975 وانتهت عام 1987، كلّفت 200 مليون دولار من دون أن تتمكّن من إطلاق قمر صناعي واحد.

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"