قراءة في المفهوم الإستراتيجي الجديد للناتو
لم تكن قمّة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، في مدريد أواخر شهر يونيو/ حزيران الماضي، مجرّد قمة عادية تشبه ما سبقها من قمم. بدت مختلفة إلى درجة تدفع إلى الاعتقاد أنها قد تشكّل نقطة تحول مهمة في مسار الحلف، الأمر الذي يعود، في تقديري، إلى سببين رئيسيين مترابطين:
الأول: أن هذه القمّة عقدت بعد أربعة أشهر من بداية الحرب التي شنّتها روسيا على أوكرانيا. ولأنها حربٌ شكلت تحدّيا غير مسبوق لحلف الناتو، بسبب تعرض إحدى الدول الأوروبية المرشحة لعضويته لغزو عسكري روسي مباشر، لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبالتالي في تاريخ الحلف، فمن الطبيعي أن تتحوّل أي قمة تعقد بعدها إلى ما يشبه الترمومتر الذي لا يقيس فقط درجة تماسك الحلف في مواجهة تحدٍّ على هذا القدر من الخطورة، وإنما أيضا مدى جهوزيته للرد عليه، وعلى كل التحدّيات المشابهة والمحتملة في المستقبل.
الثاني: أن عقدها تزامن مع توقيتٍ تعين فيه على الحلف أن يُصدر وثيقة جديدة تحدّد مفهومه الإستراتيجي للسنوات العشر المقبلة. ولأن آخر وثيقة من هذا النوع صدرت عام 2010، فقد كان يُفترض أن يكون عام 2020 موعد صدور الوثيقة التي تغطّى الحقبة الثالثة من القرن الواحد والعشرين، وهو ما لم يحدُث بسبب تفشي جائحة كوفيد 19 التي عطّلت انعقاد القمة خلال عامي 2020 و2021. وهكذا شاءت الأقدار أن يتواكب موعد قمة على عاتقها مهمة بلورة رؤية إستراتيجية جديدة للحلف مع اندلاع أزمة كبرى لا يستبعد بعضهم أن تكون بمثابة ضربة البداية في حرب عالمية ثالثة، ما أضفى على وثيقة "المفهوم الإستراتيجي" التي وقعها قادة حلف الناتو يوم 29 يونيو/ حزيران الماضي عن الفترة الممتدة حتى عام 2030 أهمية مضاعفة واستثنائية.
الوثيقة لم تعترف بأي دور لدول الحلف أو للنظام الحاكم في أوكرانيا في استفزاز روسيا، ودفعها إلى استخدام القوة في أوكرانيا
تتضمّن وثيقة 2022، والتي تقع في 11 صفحة، 49 بندا موزعة على ثلاثة محاور: الأهداف والمبادئ، البيئة الإستراتيجية، والمهام الرئيسية للحلف (الردع والدفاع، الوقاية وإدارة الأزمات، الأمن التعاوني) رؤية تؤكد بوضوح على أن المفهوم الإستراتيجي لحلف الناتو طرأت عليه تغييرات جوهرية، خصوصا إذا ما قورن بالمفهوم الذي تضمّنته الوثيقة الصادرة عام 2010، وذلك من زوايا متعددة: فهي تعكس، أولا، تغيرا واضحا في رؤية الحلف إلى مصادر تهديد أمنه، لأن الوثيقة السابقة الصادرة عام 2010، والتي عكست المفهوم الإستراتيجي للحلف عن الفترة حتى 2020، وضعت الإرهاب على رأس قائمة مصادر تهديد السلم والأمن على مختلف المستويات، بينما تراجع هذا المصدر خطواتٍ إلى الوراء في وثيقة 2022، ولم يعد يُنظر إليها باعتبارها مصدر التهديد الرئيسي لأمن الحلف واستقراره. وتقدّمت روسيا الاتحادية لتحتل موقع الصدارة على رأس هذه القائمة، فقد تحدثت هذه الوثيقة عن روسيا الاتحادية باعتبارها "أكبر وأهم تهديد مباشر لأمن الحلف وللسلام والاستقرار في المنطقة الأوروبية الأطلسية .. لأنها تهدف إلى زعزعة استقرار دول شرقنا وجنوبنا، في أقصى الشمال". وهنا، يلاحظ مدى التأثير المباشر للحرب في أوكرانيا على تغيير رؤية الحلف إلى مصادر تهديد أمنه واستقراره، كما يلاحظ أن الحلف لم يعد ينظر إلى روسيا تهديدا محتملا أو غير مباشر، وإنما باعتبارها تهديدا عسكريا مباشرا. تقول الوثيقة "إن قدرة الاتحاد الروسي على تعطيل تعزيزات الحلفاء وحرية الملاحة عبر شمال الأطلسي تعدّ تحدّياً إستراتيجياً له، وإن الحشد العسكري لموسكو، بما في ذلك في مناطق البلطيق والبحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط، إلى جانب تكاملها العسكري مع بيلاروسيا، يتحدّى أمننا ومصالحنا".
على صعيد آخر، يلاحظ أن وثيقة 2010 كانت تتجنّب النظر إلى الصين باعتبارها مصدرا لتهديد الحلف، مكتفية بالإشارة إليها منافسا طموحا يسعى إلى تعزيز مكانته على الصعيدين، الإقليمي والعالمي، عبر زيادة قدراته الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية. أما وثيقة 2022 فلم تكتف بالنظر إلى الصين منافسا شريفا، وإنما مصدرتهديد لا يقلّ خطورة عن روسيا. صحيحٌ أنها لا ترى في الصين خطرا عسكريا مباشرا على الحلف، مثلما هو الحال بالنسبة لروسيا، لكنها ترى، في الوقت نفسه، أن "الطموحات المعلنة لجمهوية الصين الشعبية، واعتمادها مجموعة واسعة من الأدوات السياسية والاقتصادية والعسكرية لزيادة وجودها العالمي وإظهار القوة، واستخدامها أساليب خبيثة تستهدف التحكم في القطاعات التكنولوجية والصناعية الرئيسية، والبنية التحتية الحيوية، والمواد الإستراتيجية وسلاسل التوريد، واستخدام نفوذها الاقتصادي لإيجاد التبعيات الإستراتيجية وتعزيز نفوذها .. إلخ، تشكل تهديدا مباشرا لمصالح الحلف وأمنه وقيمه". الأخطر أن هذه الوثيقة ترى "إن تعميق الشراكة الإستراتيجية بين جمهورية الصين الشعبية والاتحاد الروسي ومحاولاتهما المتعاضدة تقويض النظام الدولي القائم على القواعد يتعارضان وقيمنا ومصالحنا"، ومن ثم ينبغي مواجهتها بالحزم الواجب.
تزامن موعد قمة عليها مهمة بلورة رؤية إستراتيجية جديدة لحلف الناتو مع اندلاع أزمة كبرى لا يستبعد بعضهم أن تكون ضربة البداية في حرب عالمية ثالثة
وهي تعكس، ثانيا، تغيرا واضحا في رؤية الحلف إلى كيفية مواجهة مصادر تهديد أمنه واستقراره، فبعد أن كان الحلف يركّز، في وثائقه السابقة، على "التعاون وبناء الشراكات والتشبيك مع الآخرين"، باعتبارها وسائل فعالة في مواجهة مختلف مصادر التهديد، نجده يركّز في الوثيقة الحالية على "بناء القدرات الذاتية وحشد الموارد وزيادة النفقات العسكرية". صحيحٌ أن الوثيقة أكّدت بوضوح أن الحلف "لا يسعى إلى مواجهة روسيا، ولا يريد أن يكون مصدر تهديد لها"، لكنها حرصت، في الوقت نفسه، على إبراز "تصميم الحلف على تعزيز القدرات الردعية والدفاعية لجميع أعضائه، وأنه سيردّ على التهديدات بطريقة موحدة ومسؤولة، وسيبقي على قنوات اتصاله مفتوحة مع الروس لمنع التصعيد".
على صعيد آخر، يلاحظ أن الوثيقة لم تعترف بأي دور لدول الحلف أو للنظام الحاكم في أوكرانيا في استفزاز روسيا، ودفعها إلى استخدام القوة في أوكرانيا، بذريعة الحرص على حماية المواطنين من أصل روسي، كما لم تشر، من قريب أو بعيد، إلى مشاعر القلق التي انتابت الرئيس بوتين، بعد إقدام أوكرانيا على توقيع اتفاقية للشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة في 10 نوفمبر/ تشرين الثاني، ولا للمطالب التي تضمنتها رسالته إلى الدول الأعضاء في حلف الناتو، كرد فعل على هذه الاتفاقية، والتي شملت: التعهد بعدم انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، وعدم وضع أسلحة هجومية على حدود روسيا، وسحب قوات الناتو من منطقة شرق أوروبا إلى غربها، وهي المطالب التي رفضت الولايات المتحدة مجرّد مناقشتها، ما أدّى، في النهاية، إلى اندلاع الحرب. وبدلا من ذلك، راحت الوثيقة تؤكد على حق كل دول المنطقة، وخصوصا دول أوروبا الشرقية، في تحديد مصيرها ومستقبلها، بما في ذلك الانضمام إلى "الناتو" وإلى الاتحاد الأوروبي، ورفض أي تدخل لروسيا الاتحادية في الشؤون الداخلية لهذه الدول.
إذا ربطنا بين ما جاء في هذه الوثيقة والمسار الذي سلكته الحرب الدائرة على الساحة الأوكرانية، فسوف نتوصل إلى مجموعة من الاستنتاجات: الأول، يتعلق بكيفية الانزلاق نحو المواجهة العسكرية المحتدمة حاليا على الساحة الأوكرانية، فليس من المستبعد على الإطلاق أن تكون الولايات المتحدة، من خلال أجهزتها ومؤسساتها المعبرة عن فكر الدولة العميقة وتوجهاتها، قد تعمّدت استدراج روسيا إلى مواجهة على الساحة الأوكرانية، وأنها كانت تستعد جدّيا لهذه المواجهة منذ إقدام روسيا على احتلال شبه جزيرة القرم عام 2014.
العقوبات الاقتصادية لم تؤت الثمار المرجوة منها، وروسيا ربما تكون في طريقها إلى كسب هذه الجولة من الصراع
الثاني: يتعلق بجوهر الصراع الدائر حاليا على هذه الساحة. فجميع الأطراف المنخرطة فيه تدرك أن هدفه الأساسي يدور حول وضع حد للهيمنة الغربية المنفردة على النظام العالمي الراهن وتأسيس نظام عالمي متعدد القطبية أو، على الأقل، نظام ثلاثي القطبية تشارك فيه روسيا والصين، وهو ما يرفضه الغرب بقيادة الولايات المتحدة، ويفسّر عودة التماسك لحلف الناتو بعد أن كان مهدّدا بالانهيار، كما يفسّر، في الوقت نفسه، إصرار الغرب على إلحاق هزيمة عسكرية بروسيا على الساحة الأوكرانية، لأن انتصارها يعني، على الفور، انهيار النظام الدولي أحادي القطبية.
الثالث: يتعلق بالأدوات المستخدمة في هذا الصراع، فالدول الغربية تدرك أن روسيا هي القوة النووية الأولى في العالم، ما يجبرها على عدم الانخراط بشكل مباشر في الصراع الدائر معها على الساحة الأوكرانية، والاقتصار من ثم على سلاح العقوبات الشاملة على روسيا، من ناحية، وتقديم أقصى دعم عسكري وسياسي واقتصادي ممكن لأوكرانيا، لتمكينها من كسب الحرب، من ناحية أخرى.
الرابع: يتعلق بمستقبل هذا الصراع، فالمسار الذي سلكه يشير، من ناحية، إلى أن العقوبات الاقتصادية لم تؤت الثمار المرجوة منها، وأن روسيا ربما تكون في طريقها إلى كسب هذه الجولة من الصراع، لكنه يشير، من ناحية أخرى، إلى أن الدعم المقدّم لأوكرانيا لم يمكّنها فقط من الصمود ومنع روسيا من تحقيق انتصار سريع وحاسم، ولكن أيضا من استعادة أراضٍ عديدة فقدتها، والشروع في تحرير ما بقي منها، بما فيها جزيرة القرم. ولأنه يستحيل تصوّر أن تقبل روسيا النووية بهزيمة عسكرية في أوكرانيا، لم يعد التصعيد واستخدام الأسلحة النووية التكتيكية مستبعدين، خصوصا أن أحداث الشهور الأخيرة أثبتت أن الولايات المتحدة سخّرت كل إمكاناتها التكنولوجية والاستخباراتية في خدمة أوكرانيا، ما قد تفسّره موسكو انخراطا أميركيا مباشرا في الصراع. لذا أعتقد أن العالم كله ربما يكون على وشك الدخول في نفق مظلم خلال الشهور القليلة المقبلة. وما لم ينتبه كل قادته إلى أن البشرية كلها، وليس فقط روسيا أو حلف الناتو، تواجه مصادر تهديد جمّة، ليس أقلها التغيرات المناخية والأمراض المعدية، ومن ثم باتت في حاجة ماسّة إلى نظام عالمي جديد يواجه جميع مصادر التهديد لأمنها المشترك، فلن يكون في مقدور أحد أن ينجو بمفرده من شبح حربٍ نوويةٍ بدأ يقترب ببطء.