قتلوه رعباً
لم ينتظروا حتى تسحبه أمه من ذراعه الصغيرة، وتطرق باب الجارة العجوز التي تقطن على بعد ثلاثة بيوت من بيتها في الحارة الضيّقة، وتشير من دون كلام نحو الطفل الصغير فتفهم الجارة العجوز مقصدها، وتمدّ يدها تحت خزانةٍ عتيقةٍ حتى تصل إلى قنّينة صغيرة قاتمة اللون تفتح غطاءها المحكم، وتسكب بعضا من الزيت في باطن كفّها المغضّنة، ثم تفرك كلتا يديها بالسائل الزيتي ذهبي اللون، وتبدأ بالتمتمة ببعض الآيات القرآنية، قبل أن تشير إلى الأم إشارة تفهمها سريعا فتمدّد الصغير على الحصير البالي، وتنزع ما استطاعت من ثيابه، فتبدأ الجارة العجوز بتدليك ما ظهر من أعضائه الرقيقة الناحلة، ولا تتوقف عن التمتمة بآيات الشفاء، ثم تشير إلى الأم بإشارة أخرى فتسحبه إلى البيت، وتدسّه في فراشه، وتنتظر أن يستغرق في النوم، ويبذل العرق، لكي تطمئن بأنه قد أصبح في صحّة وعافية.
لم ينتظروا أمه لكي تقوم بما يعرف في بلادنا العربية بـ "لقطة الخوفة" أو "قطع الرعبة". ورغم إجماع الأطباء على أن لا أساس علميا لهذه الممارسة الضاربة في القِدم، إلا أن الأمهات لا يتوقفن عن سحب الصغار نحو جارةٍ عجوز في مكان ما، ثم يعلن أن دواء الطبيب لم يُجد نفعا، ولكن بركة العجوز أم فلان قد حلت، وحلت معها عقد الخوف التي كانت تربط عروق الصبي الصغير، والذي قد ظهرت عليه أعراض "الخوفة"، حيث عافت نفسه الطعام وشحب لونه وقلّ نشاطه حتى أشارت على الأم جارة خبيرة بأن تُجري له الإجراء اللازم والمتّبع والمتعارف عليه والمتوارث جيلا بعد جيل وهو "لقطة الخوفة".
لم يتركوا الفرصة لأمه، ولا لجارتها العجوز، ولا حتى له، لكي يخضع لهذا الإجراء المتوارث بسبب أقسى شعور قد يتعرّض له طفل في السابعة من عمره، وهو شعور الخوف، فهو بالكاد قد غادر حضن أمه والدفء والحنان والأمان، وها هو العام الدراسي الجديد يبدأ فيعلقون في ظهره حقيبة ثقيلة، ويرسلونه إلى المدرسة مع باقي إخوانه، ولا تنسى الأم في فراغ يومها الصباحي أن تعدّ له "مناقيش الزعتر" التي يحبّها انتظارا لعودته، ولكنه عاد ليدخل البيت سريعا فارّا وهاربا ومرتعد الفرائص بسبب ذلك الوحش الآدمي الذي يلاحقه، والذي لم يرحم طفولته، واعتقد أنه يهدّد حياته وأمن دولته، فطارده مستغلا ضعفه، حتى لحق به وقطع الطريق أمامه، فتوقف قلبه ومات في لحظته.
مات الطفل الصغير ابن السابعة، ريان ياسر سليمان، رعبا. هكذا بكل بساطة قتلوا طفولته البريئة، حين طارده ذلك الكائن القبيح المدجّج بالسلاح الذي لا يشعر بخجل ولا عار وهو يلاحق صبيا لا يصل طوله إلى خاصرته بين الأزقّة، معتقدا أن الظفر به سوف يكون غنيمة، وسوف يشفي غليله، وسيمنحه مساحةً قليلة ومؤقتة من الراحة، حين يدفع به داخل سيارة عسكرية، ويعود به إلى سجنٍ مخصّص لمن هم في مثل سنه، ويصدر عليه حكمٌ بغيض بغرامة مالية ضخمة، لكي يلقنه درسا لن ينساه حسبما يعتقد، ولكن الحقيقة أن كل الصغار الذين تعرّضوا لهذا الموقف، والذين أصبحت في لحظة طفولتهم معلقة داخل سيارة عسكرية ضخمة مغلقة بإحكام عليهم، وهناك الجنود الذين ينهالون بالضرب والركل عليهم، قد كبروا بسرعة، وتغيّروا وأصبحوا مقاتلين صناديد أقوياء، وكأن هذا الحدث وتلك المطاردة التي انتهت بأن يلتقطهم الجنود الأغبياء، ويضعوهم في فراغ عرباتهم الضخمة، بمثابة نقطة تحوّل أو طفرة نمو لم تكتب عنها كتب الطب في أي بقعة في العالم.
مات الطفل ريان ياسر سليمان رعبا، وفي ذكرى وفاة طفل آخر مات رعبا قبل سنوات طويلة، محمد الدرة، والذي لم يشفع له ظهر أبيه في ألا يموت رعبا، وفي صدره صرخة لم يسمعها العالم، صرخة موجّهة إلى الإنسانية التي أصمت وعميت لتتكرّر المأساة الموجعة تباعا، ويطلق عليها "قتل الأطفال رعبا".