قالت مريم لا فقتلوها
تحاولين جاهدةً تجنب معرفة تفاصيل مقتل مريم، في مكان عام، وعلى مرأى من الناس، من دون أي ذنب، سوى أنها اختارت أن تقول لا. ولكن صورتها المبتسمة وملامحها الجميلة التي تطل بمختلف مواقع التواصل لم تترك لك مجالاً من الهروب أو التهرّب.
مريم ذات الـ27 ربيعاً، كغيرها من فتيات في أحياء عمّان، يعشن في بيوتٍ متراصّة، لا تقوى نساءٌ كثيرات فيها على التحرّك بحرية، وليس أمامهن سوى القبول والرضا أو العنف والموت. وتقودنا التفاصيل إلى أن نفتح الباب واسعاً أمام وحوشنا العنصرية الحبيسة، فهي فتاة سورية الجنسية، جميلة، تعمل في صالون سيدات في أحد أحياء عمّان المتواضعة.
قاومت مريم، كغيرها من النساء، بغض النظر عن خلفياتهن وجنسياتهن، لكنّ جائزتها كانت 15 طعنة في مجمع للحافلات في وضح النهار. فعلياً، لم تقع الجريمة منتصف ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وإنما قبلها بسنوات، بطعناتٍ متتاليةٍ من التهديد والتحرّش والمضايقة على يد شابٍّ حاول أن يتزوجها فرفضت، مرّة مرّتين بل مرّات. حاول معها مختلف الطرق، حتى أنه عمد إلى تشويه سمعتها، لينفر منها الجميع. لم لا؟ فالمخيلة المريضة تقود صاحبها إلى أسوأ من ذلك، والأسوأ حصل.
لم تقع الجريمة منتصف ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وإنما قبلها بسنوات، بطعناتٍ متتاليةٍ من التهديد والتحرّش والمضايقة على يد شابٍّ حاول أن يتزوجها فرفضت، مرّة مرّتين بل مرّات
ليس مهماً إن كان قتلها من صاحب سجل جرمي أم لا كما ورد في الأنباء. ما يهمني أنّ امرأة رفضت واختارت أن ليس لديها الرغبة بتكوين أسرة مع ذلك الشخص، حتى لو كان يحمل شهادة في علم الفضاء. هو خيارها وحدها وليس لأحد وصاية عليها. رفعت مريم صوتها وقدّمت شكاوى إلى الجهات الرسمية، بل كان والدها قد قدّم شكوى قبل ساعاتٍ من الحادثة، بتلقيه تهديداتٍ من هذا الشخص، المعروف اسماً ومكان إقامة وسجلاً جرمياً حافلاً، وأنّه أب يشعر بالخوف على حياة ابنته... لكن بلا جدوى!
خمس عشرة طعنة بعدد سنوات شبابها ونضجها، وتحوّلها من طفلةٍ آمنةٍ تلعب في الحارة مع أقرانها، لا يسألونها من أين أتيت، ولماذا أنت بيننا، إلى عنوانٍ في الأخبار وتفاصيل عن جنسيتها وعائلتها وعملها. ويتبادل الجميع صورتها بملامحها الجذّابة الساحرة، وتحوّلت اليوم إلى رقمٍ يُضاف إلى جرائم قتل النساء بسبب جنسهن، ولا شيء آخر.
أسوأ السماسرة كانوا من يتاجرون بزواج اللاجئات لأردنيين وعرب، وأبرز العرب كانوا من بعض دول الخليج، وأسوأهم على الإطلاق السماسرة السوريون أنفسهم
يطفو سؤالٌ هل انتهى مصير مريم شهيدة لرأيها وخيارها الحرّ، بسبب قوتها وإصرارها على الرفض، ولم يتحمل الجاني "بذكوريته" أن ترفضه امرأة، وهو لا يتصورها أصلاً إلّا راضيةً ومستسلمة وموافقة، أم تفوّقت مشاعره الفوقية التافهة بأن كيف يعقل لفتاة من جنسية أخرى أن ترفض ابن بلدٍ، حتى لو كان سجله حافلاً بمخالفات وجرائم مثبتة!؟
نقلتني القصة عنوة إلى مخيم الزعتري للاجئين السوريين شمال المملكة في محافظة المفرق، وتحديداً العام 2013، وأنا أتجول في شوارع ترابية مفروشة بالحصى، وعلى الجانبين صفّ من الخيام قسمت كأحياء بأحرف وأرقام بلا أسماء، وأصبح المخيم محجّاً للصحافيين من كلّ بقاع الأرض، للحديث عن الأحوال المعيشية الصعبة وأهوال الحرب ومآسيها وضحاياها من الأطفال والعجائز والنساء بطبيعة الحال.
ورأينا أيضاً ضيوفاً آخرين، تجّاراً ومتبرّعين وسماسرة يبيعون ويشترون كلّ شيء، من قبيل تصاريح الخروج (لم يكن مسموحاً للاجئ الخروج من المخيم وقتها من دون تصريح من السلطات الأردنية، بالتعاون مع مفوضية شؤون اللاجئين). وأسوأ السماسرة كانوا من يتاجرون بزواج اللاجئات لأردنيين وعرب، وأبرز العرب كانوا من بعض دول الخليج، وأسوأهم على الإطلاق السماسرة السوريون أنفسهم.
تحوّلت مريم اليوم إلى رقمٍ يُضاف إلى جرائم قتل النساء بسبب جنسهن، ولا شيء آخر
لم تكن تلك ظاهرة، بل كانت في مجملها تهويلاً إعلامياً من جهاتٍ ذات مصلحة في الداخل والخارج، إذ أجريت شخصياً تحقيقاً مطوّلاً عن القصة. وبعد بحث عام كامل، لم أتعرف إلّا على سمسارين، أردني وسوري يقيم في أحد أحياء عمّان الفقيرة، لكنّ الاتجار بالبشر جريمة، سواء لإنسان أو لعشرة آلاف.
تتحمل النساء في الحروب واللجوء أهوالاً من العذاب والاستباحة، وقد قابلت مئاتٍ منهن، وأدمتني قصصهن وتجاربهن. وأذهلتني قدرتهن على الصمود والإبقاء على خيمهن نظيفةً مرتبة، وأطفالهن مواظبين على الذهاب إلى المدرسة، ووعود صادقة بعدم السماح لطفلاتهن بمواجهة المصير نفسه، والنجاة بهن، بتعليمهن ومساعدتهن على اختيار من ترى أنّه رجل يستحقها لتنشئ أسرة.
درست مريم وتعلمت، وكانت تعمل لتعيل أسرتها، تستقبل الحياة بحلوها ومرّها، ذنبها أنّها صدّقت ما قيل لها، ولم تقبل المساومة، وأعلنت رفضها صراحة، لأنّها لم تشعر بأنّ لجوءها وجنسها "كما هو متوقع من عقول مريضة" سببان لضعفها وقبولها بالأمر الواقع والمتاح. لم نثبت لها العكس، وكنا جميعاً بلا حول ولا قوة، نراقب ببلاهة كيف خذلتها الحياة في وضح النهار، وهزمت شبابها بالموت طعناً، ولم يترك لأهلها ولنا منها إلّا وجهاً مبتسماً في وجه قبح هذا العالم!