قاسم قصير مثقفٌ ممانعٌ بوجه حزب الله
قاسم قصير مثقف لبناني مختلف عن أولئك الذين تجدهم في المعسكرين: المعادي لحزب الله، والمؤيد له. هو لا علاقة له بالمثقفين الشيعة الليبراليين المعادين للحزب. ولا بالمثقفين غير الشيعة، وهم إعلاميون بغالبيتهم، الذين يؤيدون هذا الحزب استناداً إلى علاقتهم بالنظام السوري. ويطغى على هؤلاء خرّيجو القوميتَين، العربية والسورية. ولا بالمثقفين اليساريين، الذين ما زالوا ينادون بعضهم بالـ"كاماراد" ("رفيق" بالفرنسية)، يكتبون المدائح بالحزب، ويرفضون رفضاً ستالينياً صارماً الاستماع إلى من يخالفهم في هذه النقطة بالذات، جارفين في طريقهم كل النقاط. أو الذين انتقلوا من إيمانٍ يساري إلى آخر إسلامي، إثر الثورة الإيرانية. وهم داخلون في الثلاثين من عمرهم. وقصير، على الرغم من تكرار ظهوره على الشاشة، لا يشبه أيا من متصدِّري مشهد الحزب، يكرّرون ثوابته بلا هوادة، ولا يرون حدثا جديدا بغير منظاره. لا تجد له أثراً في تلك السجالات التي بنتْ خصوماتٍ دائمة وشخصية، بين مؤيدي الحزب والمناهض له.
وقد تكون صفاته منسجمة مع عمره. ولد عام 1960. خلافاً للجمهرة الأوسع من اليساريين الذين ولدوا بين بداية الخمسينيات ونهايتها. أي أنه شبّ في خاتمة هذا العقد. مع انتهاء دورة الازدهار اليساري، وبداية توهّج الدورة الإسلامية. ربما لهذا السبب كان "مروره" على اليسار سريعاً.
هو نوع آخر من المثقفين. أكثر من تنْطبق عليهم صفة "المثقف العضوي"، فهو ابن البيئة الشيعية المؤيدة حزب الله. مقاوِم في اللحظات الأولى لاندلاع مقاومته ضد إسرائيل. أمضى أربعين عاماً وسط الحلقات القريبة منه. يعرف قادتها. تنتمي عائلته إلى النواة التاريخية للحزب. وشقيقه أسد قصير يحتل موقعاً مهماً في مكتب خامنئي.
لعبَ قاسم قصير في السنوات الأخيرة دور "السفير" الثقافي والإعلامي لحزب الله
مثقف عضوي أيضا، بمعنى أنه يعبّر عن تطلعات وآمال الجماعة المذهبية التي ينتمي إليها. وهذه فضيلة، ويمكن أن تتحوّل الى سوءَة، كما سنرى، عندما سينبري برأي مستقل، هو تعبير عميق عن حاجات أبناء طائفته أو رغباتهم، ولكنه يجد معارضة شرسة من "وعيهم الجمعي".
لعبَ قاسم قصير في السنوات الأخيرة دور "السفير" الثقافي والإعلامي لحزب الله. قربه من قادته ومن بيئته مَنَحه المعلومات التي يحتاجها لإصدار تحليلاتٍ عن الحزب، على ضوء حدث، أو خطاب. وهي تحليلات تتَّسم بما توفّر في قصير من رصانةٍ وهدوء، خوّلاه الكتابة حتى في مواقع صحافية معادية للحزب. وهذه ميزةٌ نادراً ما يتمتع بها غيره من الكتاب اللبنانيين. فوق هذا، قصير مجتهدٌ بالمعنيين الديني والزمني. شهادة دكتوراه عن الحزب، تخصّص في الحركات الإسلامية المعاصرة، إحياء منابر حوارية، فوق إلمام عميق بالدين، وإتمامه طقوسه وعباداته.
هو دمث. خلوق. هادئ. الفرق صارخ بينه وبين أقرانه من مؤيدي حزب الله. يفتقر إلى الصلافة التي اتسمت بها تدخلات هؤلاء المرئية أو المكتوبة. وقد تضخّمت ذواتهم، بدعم من صواريخ حزب الله، وانتصاراته في الداخل والخارج، فحوّلوها إلى انتصاراتٍ شخصية. وصاروا على درجةٍ عاليةٍ من الصلافة والتكبّر تجاه كل من يخالفونهم. وبعضهم كان يستقوي، أحياناً، بكتابة تهديداتٍ بالقتل تجاه كل من تسوّل له نفسُه قول كلمة أخرى غير كلمتهم عن الحزب القائد. وقصير يختلف أيضا عن نظرائه المناهضين لحزب الله. وقد تميّز نقدهم هذا الأخير بالغضب والتوتر المفهومَين، إلى حدّ أن كثيرين منهم لم يَعودوا يرون غيره من بين أبالِسة لبنان.
أخيرا، صدر عن قاسم نصان: مرئي وآخر مكتوب. وفيهما طرحٌ نقدي مقتضب وهادئ لحزب الله. في الاثنين، طلب من الحزب أن يستقلّ عن إيران. أن يعود من سورية حيث يقاتل عن إيران، دفاعاً عن بشار الأسد. أن يوجّه نظره إلى الداخل اللبناني الضائع والمنهار. أن ينكبّ الحزب على إصلاح النظام الفاسد والطائفي. أن يتخلّى عن عقيدة ولاية الفقيه. أن يعتمد على طريقةٍ جديدةٍ بالتفكير تسمح بتطوير النظام قائمة على المواطنة، "بعيداً عن الأسس الطائفية والزبائنية". لينتهي بنقد الاحتفاء المغالي بقاسم سليماني، في ذكرى مرور عام على اغتياله.
حزب الله أقام مقايضة بينه وبين الفاسدين، يحافظ بموجبها على سلاحه مقابل استباحتهم موارد لبنان
نقدٌ علني يصدر من قلب بيئة حزب الله، فتنطلق الحملة الإلكترونية ضد قصير من البيئة نفسها، عبر ما يسمّى "جيشها الإلكتروني". حملة عنيفة ومكثّفة. كل ألفاظها قديمة: خيانة، تخاذل، سفارة أجنبية، انشقاقي، مثل الشيخ صبحي الطفيلي (منشق عن حزب الله). حملة إلكترونية شعبية جارفة، اقتضت "اعتذارا" من قصير تجاه أبناء بيئته، بكلامٍ يشبهه، بكياسته وتواضعه. استعاد فيه ولاءه للحزب، منهياً بأنه ليس سوى "كاتب متواضع منفتح على الحوار".
كل هذه الوقائع، من حملة ومن اعتذار، ليست مهمة، إلا واحدة .. المهم ما قاله قصير. وهو على ما أظن، يؤمن به، أو على الأقل يعتقده صحيحاً. ولكن أقوال قصير هذه عن الحزب لا تستطيع أن تقاوم واقعاً راسخاً. هو أكثر المطّلعين به، كونه قريبا من الحزب وكاتب أطروحة دكتوراه عنه.
ثمة خلَل واضح في هذه الأقوال، في وسعك التقاطه، بلا عناء شديد، فحزب الله الذي تكوّن على أساس الارتباط العضوي بإيران، وبنظام مركزي تراتبي، والذي نما في البيئة الطائفية اللبنانية الملائمة، والتي يدين لها بكل أسباب وجوده وازدهاره، الذي أقام مقايضة بينه وبين الفاسدين، يحافظ بموجبها على سلاحه مقابل استباحتهم موارد لبنان، الذي يحارب بقرارات وأسلحة وتوجهات، كلها إيرانية، الذي يضع الدفاع عن لبنان خارج إطار استراتيجيته، الذي يقاتل في سورية ويعتدّ بذلك. .. أن يحارب الفساد؟ أو النظام الطائفي؟ أن يحيّد نفسه عن إيران وحساباتها؟ أن ينسحب من سورية، بعدما أضافها إلى سِجلّ أدواره؟ وفي حالة الاستجابة لكل هذه الضرورات، هل يبقى حزب الله هو الحزب نفسه؟
لا أعرف إن كان قاسم قصير واعياً لهذه المعضلات، أو أنه يحاول تجاوزها، بتفكير رغبوي، أو من خصلة استنباط ما هو الأجدى، الأنفع .. تقتصر محصِّلته على قوله، على جرأة القول. من دون توقع نتائج ينتظرها ضمناً هذا القول. إذ ليس من الصعب على المرء أن يجد في كينونة حزب الله نفسه نفياً قاطعاً أي احتمال، أو موقف، مما ينشده قصير.
كان يمكن لثورة تشرين الماضية أن تضع الطوائف في بوتقةٍ وطنيةٍ مواطنية واحدة
هنا، نأتي إلى الاستثناء، في الحملة المعادية لقصير. منْشد الحزب، علي بركات، أصدر شريط فيديو، يردّ فيه على قصير. وما يستحضره بركات هنا هو تلك القاعدة الصلْبة التي ما زال الحزب يبني عليها استمراريته الشعبية وسط بيئته: من أنه لولا إيران، لما كان هناك شيعة، إلا كما كانوا قبلها، هامشيين، فقراء .. وعلى منوال "لولا إيران..."، يعدّد بركات العطايا التي بذلتها إيران من أجل شيعة لبنان: المنْعة، العزْوة، الموقع، الدور، المعنى .. إلخ. لماذا نهتم بهذا الردّ بالذات؟ لأن صاحبه يكشف فيه عن السرّ وراء هذا الاحتضان العارم للحزب وسط الطائفة، أي "وعيها الجمْعي". ولأنه، بذلك، يصف النظام السياسي والاجتماعي للبنان الذي لا يمكن لحزب الله، ولا لغيره من أحزاب الطوائف، أن يحاول، مجرّد المحاولة، مجرّد التجريب .. بالتخلص منه، فالمنْشد لا يرى خارج الحزب، لا يمكن أن يرى "حضنا" مواطنياً يمكن أن يتّسع لوضع الشيعة، كما غيرهم من الطوائف، في بوتقةٍ وطنيةٍ مواطنية واحدة.
كان يمكن لثورة 17 تشرين أن تقوم بتلك المهمة. بجماهيرها متنوّعة الطوائف والمناطق. ولكنها أخفَقت. حتى الآن، على الأقل. وأول المساهمين في هذا الإخفاق كان حزب الله نفسه .. وهذه قصة، يعرفها القاصي والداني، والقريب والبعيد.
ومع ذلك، تحيّة لقاسم قصير، على رويّته، على سكينته. على المناخ المعنوي الآمن الذي تخلقه طبائعه الرحبة والصبورة في أي نقاشٍ لبناني، عام أو خاص، تتَقاذفه عادة أمواج السخط والكراهية.