قاسم عبده قاسم .. التاريخ ليس لقطات عاطفية
خسرت الثقافة العربية في الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، الباحث المصري قاسم عبده قاسم، أستاذ تاريخ العصور الوسطى، وصاحب المنجز الهائل.
تعرّفت إلى اسم قاسم، للمرّة الأولى، قبل سنوات طويلة. كنت طالبا جامعياً كثيف القراءة، وأحسب أني أملك ثقافة معمّقة، حين ذهبت إلى محاضرةٍ يلقيها، حاسبا أني لن أجد جديداً، فإذا بي أكتشف أني أحمل أسفارا من القصص التاريخية المسطحة من دون فهم لأدوات توثيق المصادر التاريخية وتحليلها. كما كان من اللافت شجاعته الشخصية في إعلان آراء خارج سياق أقرانه ممن انعزلوا بين الكتب العتيقة. ردّا على سؤال تقليدي عن أسباب تخلف العرب وكيفية استعادتهم حضارتهم، تحدّث عن الدورات التاريخية المحتومة، ووجود أسباب اقتصادية واجتماعية، ثم أردف إن أول خطوة للتقدّم هي أن نختار حكّامنا بأنفسنا "بعدها هنقدر نختار كل حاجة". قال ذلك في جامعة مصرية حكومية في عهد حسني مبارك قبل الثورة.
وفضلا عن منهج قاسم الصارم في توثيق المصادر التاريخية، والتي يعود فيها إلى الوثائق بلغاتها الأصلية، حتى أنه قد ينسب عبارة واحدة إلى مصدرها، فإنه أيضا يؤكّد أنه لا وجود لشيء اسمه "المصدر التاريخي الموثوق"، بل قد تكون تلك المصادر خاضعةً لانحياز كاتبها أو لمحدودية رؤيته، لذلك لا بديل عن مقارنة كل المصادر المتزامنة، وكذلك البحث في قرائن غير تقليدية، مثل المباني والملابس أو عقود البيع والشراء.
عقودا، وقع الجمهور العربي بين مدرستين في التأريخ المنحاز أيديولوجيا. الأولى مدرسة تقديس التاريخ، فيتحول تاريخ المسلمين باعتبارهم بشرا يصيبون ويخطئون، وتجري عليهم قواعد الاقتصاد والسياسة، إلى تاريخ الإسلام، حيث هو مطلق متعالٍ. لا يُدرس التاريخ عملية تفاعلية بالغة التعقيد والتركيب، بل كلقطات مجتزأة رومانسية، حيث هارون الرشيد يخاطب السّحاب، وصلاح الدين لا يضحك والأقصى أسير، وهكذا تصبح نهضة دولة الأندلس مرتبطة بانتظام شبابها في صلاة الفجر، وسقوطها مرتبطا بانحراف شبابها إلى الخمر والغناء! المدرسة الثانية هي مدرسة الشيطنة التاريخية، فيصبح صلاح الدين سفّاحا، والمسجد الأقصى ليس في القدس، والعرب لا دور لهم في حضارتهم، بل اقتصروا على الترجمة لتراث الأمم التي غزوها. يكاد أحدهم يحاكم الأحداث التاريخية بمعايير الأعلان العالمي لحقوق الإنسان اليوم. .. ويتم استخدام هاتين المدرستين لخدمة خطابات سياسية بعينها، كما يظهر جليا في استخدام تاريخ الدولة العثمانية تحديدا في كلا الاتجاهين.
في مواجهة كل هذا العبث تبرز أهمية مشاريع مثل كتابات قاسم عبده قاسم، الذي دائما ما تبنّى قراءة غير اختزالية. على سبيل المثال، يرفض، من حيث المبدأ، افتراض ثبات تاريخي لأي مجموعة بشرية، فاليهود ليسوا عباقرة التاريخ وليسوا أشراره، ولا أبطال تاريخنا ملائكة أو شياطين، ولا أجناس محكوم عليها بالتقدّم أو التأخر.
في كتابه الشهير "ماهية الحروب الصليبية"، والتي وصفها بأنها "حروبٌ استيطانية"، يطرح استنتاجات مكثفةً، منها ارتباط هزيمة العرب بتنازعهم السياسي. لكنه، في سياقاتٍ أخرى، يشرح استحالة التصور الكلاسيكي لدى قطاعاتٍ من الإسلاميين أو القوميين حول الوحدة في دولة واحدة، لأنه واقعيا في أغلب التاريخ الإسلامي نفسه انعدم وجود خليفة واحد يحكم كل أراضي المسلمين. يؤكد قاسم انحيازه إلى "عالم إسلامي واحد" وليس "دولة إسلامية واحدة".
ولا يعني هذا انحيازه لصراع الحضارات، بل بالعكس، يطرح تنظيرا مفصّلا لكون الحروب الصليبية نفسها كانت مجال تفاعل ثقافي وعلمي حول ضفاف البحر المتوسط، كما يعارض التقسيم التراثي للعالم إلى "ديار الحرب" و"ديار الإسلام"، يعتبره ذا أغراض فقهية، وليس دقيقا تاريخيا، حيث تداخلت الخطوط السياسية بتحالفات عسكرية بين حكام مسلمين وغير مسلمين ضد مسلمين وغير مسلمين، وكذلك تداخلت العلاقات المدنية في مناطق الثغور.
يؤكّد قاسم على أهمية التمييز بين نجاح دولة المماليك كإقطاعية عسكرية في صد الهجمات الصليبية وفشلها في إدارة الحياة المدنية، وتحوّلها إلى ممارسة التسلط على شعوبها، وهو ما أدخل المنطقة في تدهور حاد.
في المجمل، يستحق مشروع قاسم مزيدا من إلقاء الضوء والتسويق الشعبي، بديلا عن مشاريع تواصل تغييب العقل العربي وتخديره.