في وداع ميركل
ألقت نينا اللوم على صديقها مايكل، لعدم إحضاره فيلما ملوّنا، يوثقان به لحظات إجازتهما الجميلة في جزيرة هيدينسي، فالصور الفوتوغرافية بالأبيض والأسود لن تنقل لأحد جمال الجزيرة الحقيقي. إنه فرق بين عالمين، أحدهما شمولي يحكمه اللون الرمادي الواحد (تخلو أسواقه من أفلام الصور الفوتوغرافية الملوّنة)، وآخر ديمقراطي متعدّد الألوان. كان ذلك مضمون أغنية "نَسيتَ الفيلم الملون" التي انتقدت المنظومة الشيوعية في ألمانيا الشرقية، ولاقت رواجا كبيرا عام 1974، قبل أن تهرب صاحبتها، نينا هاغن، إلى أوروبا الغربية، متربّعة على عرش "البانك"، وقبل أن تطغى على الألمان حياة الوحدة بأبهى ألوانها. حين صدحت هاغن بأغنيتها تلك، كانت الشابة أنغيلا ميركل تدرس الفيزياء في مدينة لايبزغ التابعة لساكسونيا، إحدى الولايات الألمانية الشرقية. وكانت هذه الأغنية من بين ثلاث أغنياتٍ اختارتها المستشارة، ميركل، في حفل "الوشم الكبير"، الذي نظمه البوندسفير (القوات المسلحة الفيدرالية الألمانية)، في الثاني من شهر ديسمبر/ كانون الأول الحالي، والمستوحى من أجواء النزعة العسكرية البروسية للقرن السادس عشر. في الحفل وجّهت ميركل آخر رسائلها، إلى أصدقائها، وإلى أعدائها أيضا.
فاجأت الأغنية ألمانا كثيرين لم يعتادوا طوال 16 عاما أي إشاراتٍ من مستشارتهم إلى أصولها الألمانية الشرقية. كانت تلك المدّة، بالنسبة لميركل، مليئةً بالتحدّيات السياسية والشخصية بوصفها إنسانا، كما ذهبت في خطاب الوداع (20 دقيقة)، الذي دعت فيه إلى الدفاع عن الديمقراطية والعلم في وجه الكراهية والعنف والمعلومات المُضَلّلة، وطالبت الألمان بالمحافظة على تفاؤلهم بشأن المستقبل. إشارة غير اعتيادية أخرى ختمت بها ميركل حياتها السياسية، تمثّلت في اختيارها مجمع "بيندلر بلوك" الذي أُتْبِعَ منذ عام 1993 لوزارة الدفاع الألمانية مكانا لحفل الوداع، مُذَكّرَةً الألمان ببعض تاريخهم الذي يجسّده مبنى أنشئ أساسا مكتبا للبحرية الإمبراطورية، عام 1914، ووسّعه النازيون ليصبح مقرّا لمجموعة من الضباط الذين فشلوا في إطاحة هتلر، في 20 يوليو/ تموز 1944، وأعدموا في فناء المبنى نفسه.
ألمانيا ثاني أكبر شريك تجاري لدولة الاحتلال الإسرائيلي، بعد الولايات المتحدة
لميركل ما لها وعليها ما عليها، وهي المرأة التي لم تكتف بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الكاثوليكي الذي يهيمن عليه الذكور، بل قادت ألمانيا (أربع حكومات) وأوروبا خلال محطّاتٍ وأزماتٍ عديدة. وهي من القلّة اللائي رسمن سياسات ارتبطت باسمهن، فـ"نهج ميركل" لا يقلّ أهميةً في عالم السياسة الدولية عن "سياسة تاتشر"، تلك المرأة التي لقّبتها الصحافة الروسية بالمرأة الحديدية، وميركل لا تقلّ صلابة عنها. الرخاء الاقتصادي لدولة الرفاه الألمانية كان دائما سببا لتصويت الناس لميركل، وكانت رمزا لاستقرارٍ يتوق إليه الألمان، على الرغم من إخفاقاتٍ عديدة، فمع أنها حذّرت، منذ كانت وزيرة للبيئة، من الآثار الدراماتيكية لتغيّر المناخ، إلا أنها لم تقدّم أية حلولٍ مستشارةً لألمانيا، بل هي متّهمة بالمسؤولية عن تدمير قطاع الطاقة المتجدّدة الناشئ الذي ورثته عن الحكومة السابقة. تتحمّل ميركل أيضا المسؤولية عن سوء إدارة أزمة منطقة اليورو، ما فاقم حالة بلدان جنوب أوروبا بعد فرضها سياسات تقشّف لا تحظى بالشعبية وغير فعّالة. على مدى 16 عاما، استطاعت ميركل إدارة معظم المشكلات المحلية والقاريّة، أما تلك التي تمكّنت من حلها فكانت أقل بكثير. لقد فضلت ميركل الاستقرار على الإصلاح، وتناسب ذلك مع المجتمع الألماني الذي تغلب عليه المحافظة، والمغرم بالثروة، لا بالمغامرات الإصلاحية.
ألمانيا ثاني أكبر شريك تجاري لدولة الاحتلال الإسرائيلي، بعد الولايات المتحدة. زارتها ميركل ثماني مرّات، آخرها الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، متوجهة إلى نصب "ياد فاشيم" التذكاري للمحرقة اليهودية في القدس المحتلّة. خلال زيارتها، أبدت ميركل حرص ألمانيا على علاقاتها الأمنية والاقتصادية مع دولة الاحتلال، ولم تلتق بأي مسؤول فلسطيني، وعلى الرغم من اختلافها مع إسرائيل في السياسات المتعلّقة بالفلسطينيين وإيران، فقد جعلت من حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بمواجهة أعدائها إحدى أولويات السياسة الخارجية الألمانية طوال 16 عاما. لم يكن متوقعا أن تتخذ ميركل موقفا مغايرا من إرث العلاقات الوطيدة بين بلادها ودولة الاحتلال (بدأت في عام 1965)، التي كانت، إلى حد بعيد، نتاج "عقدة الذنب" تجاه اليهود، والشعور الألماني المستمر بالمسؤولية عن جرائم تاريخها النازي، والهوس بفكرة معاداة السامية. أكدت المستشارة الألمانية رؤيتها في بقاء "دولة إسرائيل اليهودية الديمقراطية"، لذلك لم تقلّ شعبيتها في إسرائيل عن شعبيتها في ألمانيا.
موقفها السخي بخصوص منح اللجوء السياسي والإنساني جعلها تكسب الأصدقاء في كل مكان
لم تقدّم ميركل المساعدة لبلدان فقط، بل ساعدت أيضا أشخاصا ومنظماتٍ دولية، وموّلت منظمات مدنيةً غير حكومية، وموقفها السخي بخصوص منح اللجوء السياسي والإنساني جعلها تكسب الأصدقاء في كل مكان، وصار لها شعبية عارمة بين اللاجئين من مختلف الأعراق، وهي التي لوّنت، عام 2016، الحياة الرمادية لمليون لاجئ منهم، بعد أن أعلنت استعدادها لاستقبالهم، كما أعلنت، في أغسطس/ آب الماضي، أن أربعين ألف لاجئ أفغاني قد يكونون مؤهلين للإجلاء، مانحة إياهم أفلاما ملوّنة يستبدلون بها الصور القاتمة لحياة مهدّدة بحركة طالبان. شجّعت سياسات ميركل اللاجئين على التمسّك أكثر بحقهم في اللجوء والحياة الكريمة، وتفاعل كثيرون منهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي مع حفل وداعها، وعبّروا عن قلقهم من انتكاسات حادّة أوروبية في ما يتعلق بحقوق اللجوء وسياسات الهجرة.
في حوار تلفزيوني حول المخدّرات، جمع هاغن وميركل، حين كانت الأخيرة وزيرة للمرأة والشباب، صرخت هاغن في وجه ميركل: "لقد سئمت من كذبكم ونفاقكم"، لكن ميركل مستشارةً، تحلّت بالتواضع والقدرة على ضبط النفس والنزاهة الشخصية والشفافية. وفي وقتٍ كان فيه دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة، وانسحبت فيه بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كانت ألمانيا منارة استقرار أخيرة، وكانت ميركل فارسة الديمقراطية الليبرالية في مواجهة استبداديين متزايدين وشعبويتهم في العالم.
كانت ميركل، أول امرأة في تاريخ بلادها تشغل منصب مستشارة ألمانيا، وهي "التلميذة"، كما كان يحلو للمستشار الألماني الأسبق، هيلموت كول، أن يلقّبها تحبّبا، لكنها استطاعت أن تخرج من عباءته، وسيكون على أي مستشار ألماني قادم، يخلف ميركل، لا قيادة ألمانيا وحسب، بل النهوض بقارّة بأكملها تلفّها الأزمات المختلفة، وسيترك رحيلُها عن الحياة السياسية فراغا سياسيا، وقد لا تجد، على خلاف سلفها، غيرهارد شرودر، من يملأه عن جدارة بعدها.