في وداع بيدرو مونتابيث
توفي الأسبوع الماضي في مدريد المستعرب والمؤرّخ والمترجم الإسباني، بيدرو مارتينيث مونتابيث، عن 89 عاما. وبرحيله يكون الاستعراب الإسباني قد فقد أحد روّاده وأكثرهم حضورا في العقود الستة الأخيرة.
ولد مونتابيث في بلدة خودار التابعة لمدينة 'خايْن' (1933)، ثم ما لبث أن انتقل مع أسرته للعيش في مدريد بعد الحرب الأهلية. اختار دراسة اللغة العربية بتأثير من أستاذه المستعرب إيميليو غارثيا غوميث. وحصل في 1957 على منحة للدراسة في مصر. ثم عُيّن مديرا للمركز الثقافي الإسباني في القاهرة. تزامنت إقامته في مصر مع المد القومي الناصري، ما كان له بالغ الأثر في تجديد وعيه بالقضايا العربية. حصل على الدكتوراه من جامعة مدريد (1964) عن أطروحته حول ''أسعار القمح في القاهرة خلال العصر المملوكي الأول 1252-1382''. درَّس في جامعتي مدريد وإشبيلية، كما كان أستاذا زائرا في المكسيك والجزائر وغيرهما. انتُخب عميدا لجامعة مدريد ما بين 1978 و1982. وكان أول عميد يُنتخب بطريقة ديمقراطية، في سياق تطلّع النخب الإسبانية إلى إعادة تحديد أدوار الجامعة في ظل التحوّلات العميقة التي كانت تمر بها إسبانيا.
عُرف مونتابيث باطّلاعه الواسع على تاريخ الثقافة العربية، سيما في طوْرها الأندلسي، الذي كان يعتبره نقطة مضيئة في تاريخ العلاقات العربية الإسبانية. وبقدر ما كان يعبّر عن تقديره اللحظة الأندلسية، كان يلحّ أيضا على ضرورة استعادتها وفق متطلبات الحوار المشترك بين ضفتي المتوسط. كان يؤمن بأن استمرار توهّج تلك اللحظة في الذاكرتين الجماعيتين، العربية والإسبانية، يقتضي تخليص الإرث الأندلسي من مخلفات التوتر الذي طبع علاقة الثقافتين، العربية والإسبانية، عقب سقوط الأندلس (1492). وعلى أهمية الرافد الأندلسي، بالنسبة لمونتابيث، باعتباره مكونا أساسيا في الهوية الهِسْبانية Hispánica، إلا أن توظيفه اليوم ينبغي، من وجهة نظره، أن يكون ضمن أفق ٍآخر ينتصر للحوار والتعايش.
في السياق ذاته، شكّلت أنشطته الثقافية والأكاديمية جسر تواصل بين الاستعراب الإسباني والاسْتِسْبان العربي، فقد بذل جهودا محمودةً في توسيع دائرة المعرفة بالثقافة العربية في الأوساط الأكاديمية الإسبانية. ولا مبالغة في القول إنه نجح في بناء مرجعية جديدة لإعادة اكتشاف العالم العربي وفهمه بعيدا عن القوالب الفكرية النمطية التي تجتهد جهات إعلامية وسياسية غربية في ترويجها، منتقدا ما أسماه ''الاستشراق الجديد'' الذي يعيد إنتاج هذه القوالب ويُكرّسها.
أسهم مونتابيث في تحديث الاستعراب الإسباني، وتجديد أسئلته وقضاياه، والانعطاف به نحو أطوار أخرى أكثر استيعابا للقضايا العربية وتوتّراتها الراهنة. ويدين هذا الاستعراب لمونتابيث بما أصبح يتّسم به من حيويةٍ لافتة، فلم يعد أسير انشغالات نظرية وعلمية متجاوزة. بل صار أكثر فهما لواقع المجتمعات العربية المعاصرة والتحدّيات التي تجابهها. ولطالما انتقد مونتابيث استعلاء الغرب على العرب ودعمه المتواصل إسرائيل على حساب الحقوق الفلسطينية المشروعة، معتبرا ذلك سببا مباشرا في عدم الاستقرار الذي تشهده المنطقة العربية. وهو ما يجعله من بين قلةٍ من مثقّفي الغرب التي اختارت الانحياز للشعب الفلسطيني. وقد أسهم ترؤسّه هيئات، مثل جمعية الصداقة الإسبانية العربية وجمعية أصدقاء الشعب الفلسطيني وغيرهما، في التعريف بعدالة القضية الفلسطينية في إسبانيا.
خلف مونتابيث إرثا فكريا وأدبيا زاخرا توزّع بين التاريخ والدراسة والترجمة. من كتبه: ''مدخل إلى الأدب العربي المعاصر'' (1974)، ''لمحة عن قاديش العربية الإسبانية'' (1974)، ''الأدب العربي الجديد'' (1977)، ''كتابات حول الأدب الفلسطيني'' (1984) ''العرب والبحر المتوسط'' (1998)، غزالة الأندلس؛ ''نصوص معاصرة مترجمة من العربية'' (1992)، ''تحدي الإسلام'' (1997)، ''دلالة الأندلس ورمزيتها'' (2011). كما وضع مختارات شعرية مترجمة لكبار الشعراء العرب المعاصرين، أبرزهم جبران خليل جبران، بدر شاكر السياب، عبد الوهاب البياتي، نزار قباني، أدونيس، محمود درويش، وغيرهم. ومؤكّد أن التنوّع الفكري والإنساني البادي في هذا الإرث يجعل من مونتابيث حالة فريدة في الاستعراب الإسباني.