في نقاش القضايا الأخلاقية على هامش المونديال
النقاش المحتدم في وسائل التواصل الاجتماعي بشأن قضايا الممنوعات والمسموحات المحلية، على هامش مباريات مونديال قطر التي تجري هذه الأيام، لا يمكن تجاهله والمرور عليه كأنه لم يحصل، لأنه، في الحقيقة، لا يتعلق بدولة قطر فقط، بل بالواقع العربي بشكل عام. ولعل من اللافت أن نقاشات وجدالات كهذه لا تدور بين عرب وأجانب، بل بين عرب يرون النصف الممتلئ من الكأس وعرب لا يرون سوى النصف الفارغ منها.
قبل أن يقوم قارئ ما بتنميط ما ورد في السطور السابقة، وما سيرد في اللاحقة، يمكن تذكيره بحقيقةٍ لا تحتاج مراجعة، تقول إن ثمة خللا عاما في الفضاءات العربية المحلية، وكذلك في المساحة التي تجمع مواطنيها ببعضهم، يمكن تسميته من خلال توصيف مظاهره، وأولها؛ الارتياب وفقدان الثقة البينية، وهما يتدرجان من الواقع الداخلي إلى الخارجي، ويمكن أن يبدأ تطوّرهما بشكل عكسي، أي من الخارج إلى الداخل، الأمر الذي يؤدّي إلى استحالة وجود اتفاق عام على قضية معينة، حتى وإن كانت ذات طبيعة غير إشكالية.
ومع النظر إلى الكُنه القلق للشخصية التي تعيش أوضاعاً غير مستقرّة، وسط ضغوط معيشية ومعنوية، ستتحوّل الهزائم الصغيرة إلى أخرى كبيرة. وعلى أرضية انكسار أحلام الشعوب بالحرية والانتماء إلى حياة أكثر رحابة، سيتكشف المشهد عن وجود أزمة ثقة بالنفس، وانعكاس سام يتجلى في اعتبار أي إنجاز جزءاً من مؤامرة، وصولاً إلى تخوين صاحبه، والافتراء عليه بالفساد، وغير ذلك من اتهامات.
ثاني المظاهر القابلة للتوصيف من ملامح الخلل العربي العام يتأتى من خارج سياقه، وتحديداً من العلاقة مع الغرب، فمن خلال اعتبار كل ما هو غربي حضاريا، وكل ما هو شرقي متخلفا، سيتمكّن أصحاب هذا المنهج من إقصاء المخالفين لوجهة نظرهم، مع التزوّد بحزمة حقوقية مفصلة على المقاس، باتت ترمى على الطاولة، خصوصا حين طرح قضايا حساسة، ما زال النقاش مستعراً حولها، كالمثلية الجنسية والجندر، والخروج من ذلك بافتراض وجود فوبيا كامنة ضدها، تستدعي قمعها.
ملامح الخلل العربي العام يتأتى من خارج سياقه، وتحديداً من العلاقة مع الغرب
نحتاج، بداية في سياق النقاش، بشأن منع المظاهر الفاقعة، في سياق الحدث الكروي، إلى التذكير بأن الخصوصية المحلية يجب أن تُحترم وفق قواعد سلوكية عامة، فكما على المهاجرين العرب واللاجئين في أوروبا مراعاة واقع سكانها، يحقّ للبلدان العربية أن تطالب زائريها بمراعاة خصوصية مواطنيها. المسألة ليست كيفية، بل هي قانونية، وقبل ذلك هي جزء من الذوق العام، وطالما أن حقوق الزائرين محفوظة ضمن خصوصيتهم في أمكنة سكناهم، فإن أحداً لم يشتك قبل المونديال من أمر كهذا، فكل مدن المنطقة تترك هامشاً للمقيمين فيها، يتبع حاجياتهم، لكن من دون فرض ممارستها على الآخرين في الأمكنة العامة، وهذا الأمر يحدث في بقاع كثيرة في العالم، شرقاً وغرباً.
ولكن من المفيد لفت الانتباه إلى أن قوننة أوضاع الفئات التي يحكى بمظلوميتها في البلدان الأخرى مستحدثة، وهي ما تزال تواجه معارضات مجتمعية واسعة، أقلها قطاعات يمينية، لا تخفي نفسها، غير أن هذا يؤشّر إلى أن المطالبات بقوانين حماية لحقوق هذه الفئات قد مرّت بشروط ذاتية وموضوعية طويلة، قبل أن تصل إلى مرحلة النضج، كما أن اكتمال هذا المسار جاء ضمن سياق عام، أخذ بعين الاعتبار التطور المجتمعي بشكل عام على المستويات كافة.
بات بإمكان الدول القادرة أن تخوض في مساراتٍ تضعها على قدم المساواة مع دول العالم المتقدّم
وبالنظر إلى ما سبق، يحق لبعضهم أن يسأل: لماذا بات على المجتمعات العربية المحلية أن تخوض بشكل قسري في هذا الأمر؟ وكيف يستوي أن تصبح مثل هذه القضية شعاراً في مباراة رياضية، دوناً عن غيرها من القضايا الأكثر إلحاحاً؟ لماذا لا يتم رفع الشعارات المؤيدة لحقوق النساء الإيرانيات كما فعل منتخبهن الوطني، على سبيل المثال؟ ولماذا لا يتم الالتفات إلى ما قاله حارس المنتخب الفرنسي، هوغو لوريس، عن ضرورة احترام الخصوصيات؟
النقاش والجدال في تفاصيل كهذه لا يعني أن من يمتلكون وجهة نظر مغايرة يقومون بالتطبيل الارتزاق، أو أنهم يعادون حقوق هذه الفئات، فاستدعاء هذه الاتهامات الرخيصة جزء من عملية قمع الآخر، لكنها مزينة بالألوان، وإحساس بالتفوق، فقد باتت القدرة على إطلاق الاتهامات والتوصيفات جزافاً، ومن دون احترام الآخرين، جزءاً من مواصفات البطل السوبر في الفضاء الافتراضي، وكلما أمعن الشتّام بقدح المختلفين عنه صار لديه مشجعون أيضاً!
كتب الباحثون الاجتماعيون تحليلات كثيرة تناقش السلوك النمطي للمهزومين، لكن هذا المسار البحثي يحتاج إلى تجديد، بالاستناد إلى أمرين: أولهما تغير أدوات الفعالية السلوكية، بعد أن باتت النقاشات والصراعات واضحة وملتهبة في مساحات التواصل الاجتماعي. وثانيهما أن صفة الهزيمة المستقرّة لم تعد أبدية، بعد أن انتفض الثائرون ضد الحكومات القامعة المستبدّة، وبعد أن بات بإمكان الدول القادرة أن تخوض في مساراتٍ تضعها على قدم المساواة مع دول العالم المتقدّم.
وتبعاً لهذا، سنحتاج إلى التأمل في ما يتم طرحه من أفكار، وما ينتج من هذه النقاشات، لنرى هل تقدّمنا خطوة وتراجعنا خطوات؟ والعكس صحيح أيضاً.