في معنى مواجهة النكبة الفلسطينية
مرّت منذ أيام ذكرى النكبة الفلسطينية، وهي، في الوقت نفسه، يوم تأسيس إسرائيل. وبالنسبة للفلسطينيين، يختلف هذا اليوم، في الشكل والمضمون، عن باقي الأيام؛ فهو نقطة البداية في تاريخ ما بات يُعرف بالقضية الفلسطينية. الاحتلال قائم ويتمدّد، والمقاومة حاضرة ويشتدّ عُودها. وفي كلّ عام، يتأكدّ فشل النظريات والأطروحات التي قامت على أساسها إسرائيل، وفي مقدمها أنّ فلسطين أرضٌ بلا شعب، ويتعزّز، في الوقت نفسه، أنّ الشعب الفلسطيني لا يقبل، تحت أيّ شرط، التنازلَ عن أرضه، ومتمسّك في حقّه على استعادتها، والحصول على حقّه المشروع في إقامةِ دولةٍ مستقلة. ومن عام إلى آخر، يعلو هذا الصوت أكثر، ويذهب صداه أبعد، ليصل إلى أجيالٍ جديدة.
وفي هذا العام، أعادت غزّة تذكير العالم بالدرس الفلسطيني، أنّ الدفاع عن الحقّ مشروع، حتّى لو وقفت ضدّه أكبرُ قوّةٍ على الأرض. وحين يبقى الحقّ هو الهدف الأسمى، لا يقاس الأمر بكسب معركة عسكرية من عدمه، بقدر ما يجري امتحان تمسّك صاحب الحقّ به، وعدم تنازله عنه، مهما طال الزمن وكبرت التضحيات. وهنا مربط الفرس، كما يقول المثل، وهذا هو سرّ التفاف غزّة حول مقاتليها الشجعان، الذين يخوضون معارك منذ أكثر من سبعة أشهر. ورغم أنّ الخسائر كبيرة على مستوى البشر والعمران، يبدي الناسَ العاديون قدراً هائلاً من الصمود، ويتحمّلون دفع الكلفة العالية، لأنّهم يُقدّرون معنى وقيمة الأرض والتحرير والخلاص من الاحتلال.
هناك من يأخذ على حركة حماس، وغيرها من الفصائل الفلسطينية، أنّها فجّرت مواجهة عسكرية مع الاحتلال ذاتَ ثمنٍ عالٍ، غير أنّ هذا التفكير يبسّط المسألة، ولا يراها في حجمها الفعلي، ولا في معانيها القريبة والبعيدة، فالمقاومة في حركة جدلٍ مع المشروع الصهيوني الاستيطاني الذي يتوسّع، وهذا ينطبق على كلّ ثورات الشعب الفلسطيني، التي تتوالى موجةً وراء أخرى، من دون انقطاع، وتصبّ كلّها في مجرى واحد، هو مواجهة الاحتلال، وهذا لا يعني أنّ المقاومة ردّة فعل على الاحتلال فقط، بل هي ضرورة لبقاء الشعب الفلسطيني، وأول شرط لذلك الثبات على حقّ الدفاع عن الذات، والبقاء على أرض الوطن، ومواجهة التهجير مهما كان الثمن، وعدم قبول منطق التعايش مع الاحتلال، الذي يتبنّى مشروعَ بناءِ "الدولة اليهودية". ولا يختلف الأمرُ، سواء حملت المقاومة اسم "حماس" أو "فتح" أو "الجبهة الشعبية".
وفي الأحوال كافة، لا يحقّ لأحدٍ أن يزايد على أهل غزّة، فهم وحدهم من يدفع الفاتورة الكبيرة اليوم، ولا يمكن لأيّ كان، مهما بلغ من الوقاحة، أن يضع نفسه محلّ هذا الشعب، الذي غدا مشرّداً، بعد تدمير الغالبية العظمى من البيوت، وخسر عشرات الآلاف من الضحايا. ومن له الكلمة الأولى والأخيرة هم هؤلاء الناس، الذين يواجهون الوحشية الإسرائيلية. ومهما كان حجم التضامن والمساندة التي يتلقّونها من العالم، فإنّها تعدّ قليلة مقارنةً بما قدّموه من تضحيات لم تتوقّف منذ قيام دولة إسرائيل، فقد كان القطاع أرض مواجهات تتكرّر، وصار الهدوء هو الاستثناء. وبالتالي، أهل غزّة وحدهم من لهم الخيار في ما يخصّهم كلّه، سواء تعلّق الأمر بالحرب أم بالسلم، أو بمن يدير القطاع. ومن قدّم هذه التضحيات كلّها، وصمد، وواجه ببسالة، منذ أزيد من سبعة أشهر، حربَ إبادةٍ غير عاجز عن تقرير مصيره بنفسه. ومهما بلغ الوضع من صعوبة، لن ينتظر أهل غزّة أحداً من الخارج يملي عليهم القرار المناسب، فهم أدرى وأجدر من غيرهم، ومن يرفع التضحية إلى هذا المصاف، للخلاص من الاحتلال، لا يمكن له أن يقبل الوصاية أيّاً كان مصدرها.