في مئويّة دستور 1923 في مصر
تحلّ الذكرى المئويّة لصدور دستور 1923 في مصر في 19 إبريل/ نيسان الحالي، ليحلّ محلّ القانون النظامي لعام 1913، ويعتبر صدروه حدثاً مفصليّاً في تاريخ مصر الحديث، وتتويجاً لمسيرة طويلة من كفاح الحركة الوطنيّة المصريّة منذ ظهورها في منتصف القرن التاسع عشر، بشعارها التاريخي الأثير الذي رفعته في مواجهة الاستبداد والاستعمار "مصر للمصرييّن"، والذي مثّل الأساس الذي قامت عليه الجامعة الوطنيّة، لتحرير الإرادة الوطنيّة من النفوذ الأجنبي.
لم يخرُج دستور 1923 بين عشيّة وضحاها. ولم يكن مشهد صدوره منفصلاً عن مشاهد كثيرة سبقته طوال عقود، فقد كان الدستور مطلباً أساسيّاً من مطالب الحركة الوطنيّة، ولم يغب عن أنظار رجالها. وبالإمكان أن نلحظ هذا بوضوح في كتابات متناثرة طالبت، في مرحلة مبكّرة، بوضع حدود واضحة تضبط علاقة الحاكم بالمحكوم، وتحاول بلورة حقوق المصري في وطنه، والذي عُرف، في وقت لاحق، بمبدأ المواطنة، وإخضاع الحاكم للرقابة الشعبيّة عن طريق ممثّلي الأمّة.
تتابعت تلك الكتابات قبل الثورة العرابيّة، من أمثال رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وعبد الله النديم، ومحمود سامي البارودي، بالإضافة إلى كتابٍ صغير الحجم عظيم الأهميّة، للشيخ حسين المرصفي، عنوانه "الكلم الثمان" في زمن الثورة العرابيّة، شرح فيه ثماني كلماتٍ راج استخدامها حينذاك: الأمّة، والوطن، والحكومة، والعدل، والظلم، والسياسة، والحريّة، والتربية.
تراكم أثر تلك الكتابات، وكان بمثابة إرهاصات مثّلت زخماً وطنيّاً، طالب بوضع قانون أساسي للبلاد. وقد أنتج ذلك الزخم مشروعاتٍ دستوريّة مُبتسَرة غير مكتملة، ظهرت على التوالي، بدءاً من مشروع اللائحة الوطنيّة في إبريل/ نيسان 1879، فمشروع الدستور الذي قدّمه رئيس الوزراء آنذاك، محمد شريف باشا، الذي يُعدّ مؤسّس النظام الدستوري في تاريخ مصر الحديث، في مايو/ أيار من العام نفسه، ثمّ المشروع الخديوي الذي صدر في فبراير/ شباط 1882 إبّان الثورة العرابيّة، فالقانون النظامي في العام 1883.
كانت ثورة 1919 أكبر ثورة شعبيّة في التاريخ المصري، والثورة الوحيدة التي جمعت بين مطلبي الاستقلال والديمقراطيّة
مثّلت تلك المشروعات المُجهَضَة رغبة عارمة من المصريين في التحرّر من ربقة الاستبداد، وتوقاً للممارسة الديمقراطيّة، فقد خرجت تلك المحاولات الدستوريّة في مواجهة استبداد الخديوِي إسماعيل، والخديوِي توفيق، فقد نصّ المشروع الأوّل على حقّ مجلس النوّاب في مناقشة وإقرار الميزانيّة، وكان هذا بمثابة نقطة تحوّل كبيرة في المواجهة بين الحركة الوطنيّة والخديوِي إسماعيل. ووصفه عبد الرحمن الرافعي بأنّه أوّل دستور وضع في مصر على أحدث المبادئ العصريّة، في حين اتسم الثاني بطابع ديمقراطي واستند إلى النظام البرلماني، وأكّد مسؤوليّة الحكومة أمام البرلمان، عبر اعتماد مبدأ المسؤوليّة الوزاريّة.
تحطّمت تلك المشروعات على صخرة سقوط البلاد تحت سنابك الاحتلال البريطاني، الذي عصف بكلّ المشروعات الدستوريّة، بيْد أنه سرعان ما عادت الحركة الوطنيّة على يد مصطفى كامل، الذي جعل المطالبة بالدستور أساساً مكيناً في مسيرته، تجلّى هذا في هتافات طلبة المدارس العليا في إبريل/ نيسان 1909 "الدستور يا أفندينا".
وفي مارس/ آذار 1919، اندلعت الثورة بفورة شعبيّة عاتية، مطالبةً بالاستقلال والديمقراطيّة، وأدهشت جميع الفاعلين على الساحة، بدءاً من القصر ورجاله، ومروراً بالاحتلال البريطاني، الذي زلزلت الثورة قوائمه وأركانه زلزالاً عنيفاً، وانتهاءً برجال الحركة الوطنيّة أنفسهم، فقد فاق مشهد ثورة 1919 جميع التوقعّات.
ولهذه الثورة أيادٍ بيضاء عديدة على تاريخ الحركة الوطنيّة، فهي تُعدّ الثورة المؤسِّسة في تاريخ مصر الحديث، ويُمكن تشبيهها بتأثير الثورة الفرنسيّة على تاريخ فرنسا، فقد كانت أكبر ثورة شعبيّة في التاريخ المصري، والثورة الوحيدة التي جمعت بين مطلبي الاستقلال والديمقراطيّة، وشهدت حراكاً شعبيّاً لم تستطع الدولة الهيمنة عليه فيما بعد. وقد نشأ عن هذا الحراك الشعبي تشكيل تنظيم سياسي مثّل عيّنة تلقائيّة من الشعب المصري، هو حزب الوفد، الذي استطاع الرسوخ والانتشار بعيداً عن أجهزة الدولة، واستمرّ حيّاً فاعلاً مؤثِّراً متصدّراً بتأييد جماهيري كاسح، على المستوييْن الرسمي والمجتمعي، في مصر، أكثر من 30 عاماً في مواجهة القصر والاحتلال.
بعد تصريح 28 فبراير 1922، حصلت مصر على مشروعيّة دوليّة، وخرجت الدولة المصريّة إلى حيّز الوجود
أسّست ثورة 1919 لمفهوم الأمّة المصريّة، وبلورت الشخصيّة الوطنيّة المصريّة، ونجحت في تحقيق ما أخفقت فيه الثورة العرابيّة، ودشّنت فصلاً جديداً مجيداً في تاريخنا المعاصر استمرّ نحو 30 عاماً (1922 – 1952)، وهي الفترة الأخصب والأثرى في تاريخ مصر الحديث على مستوياتٍ عديدة، المعروفة بالحقبة الليبراليّة الزاهية الراقية التي انقطع كلّ ما أنجزته بقيام الانقلاب العسكري في 23 يوليو/ تموز 1952.
وبعد نحو ثلاث سنوات من اندلاع الثورة، وحالة الصراع التي تبعتها بين الإرادة الشعبيّة التي مثّلها الوفد من جهة، والاحتلال وقوى الرجعيّة من جهة أخرى، وما شهدتها من مفاوضات ومناورات، ومحاولات لامتصاص آثار ثورة المصريين، صدر تصريح 28 فبراير/ شباط 1922 بانتهاء الحماية البريطانيّة، معترفاً بمصر دولة مستقلّة ذّات سيادة. ومهما كانت التحفظّات عليه، وعلى الرغم من أن سعد زغلول نفسه وصفه بأنّه "استقلال بالنبّوت"، يظلّ الملمح المؤكَّد أن ذلك التصريح مثّل نقطة مفصليّة في تاريخ مصر الحديث، حملت، بمعايير عصره، مكاسب للحركة الوطنيّة المصريّة في مواجهة القوى العظمى في المشهد الدولي. وبموجبه انتزعت مصر استقلالها السياسي (وإن ظلّ منقوصاً) بعد عقود من الاحتلال، وبعد سنوات من فرض الحماية البريطانيّة، التي تمكنّت ثورة المصريين في 1919 من رفعها. كما يظلّ المؤكَّد أيضاً أن الإنكليز قد اضطُروّا إلى إصداره اضطراراً، ليتفادوا وضعاً تصير فيه الحكومة مستحيلة على حدّ تعبير اللنبي في مراسلاته مع كيرزون، وأن ما حدث في ربيع 1919 عندما استحالت الحكومة كان أمراً أوجب على الإنكليز تفادي تكرّره مستقبلاً وفقاً لطارق البشري.
بعد تصريح 28 فبراير 1922، حصلت مصر على مشروعيّة دوليّة، وخرجت الدولة المصريّة إلى حيّز الوجود، فشرعيّة الدولة مدينة بالفضل لثورة 1919، وبدونها كانت مصر ستظلّ محميّة بريطانيّة، أو كانت ستظلّ كما كانت قبل فرض الحماية، مجرّد ولاية عثمانيّة تابعة للدولة العثمانيّة التي سقطت عام 1924.
لم يكن التصريح نهاية المطاف، وإنّما كان مجرّد خطوة على طريق الاستقلال، فهو مهّد الطريق أمام التحوّل إلى النظام الدستوري، وفي 15 مارس/ آذار 1922، أعلن السلطان فؤاد استقلال البلاد، وتقلّد لقب "صاحب الجلالة ملك مصر"، وفي 3 إبريل/ نيسان 1922، شكّلت وزارة عبد الخالق ثروت لجنة الثلاثين لوضع مشروع الدستور ... وهو أمر يستحقّ حديثاً آخرَ.