في لجّة الأرشيف

28 يوليو 2022

(يوسف سيده)

+ الخط -

فلان تغيّر.. تغيّر جدا.. تغير تماما. تستطيعين القول إنه انقلب!

قالت لي زميلتي ذلك، وهي تشير بأسى، وقليل من الدهشة الممزوجة بالاشمئزاز، وربما الحزن، إلى مقالة كتبها هذا الفلان الذي نعرفه منذ ما يزيد على عشرين عاما. بأفكار أخرى مختلفة تماما عمّا بدا لنا في ما عبر عنه بهذا المقال المنشور أخيرا.

ولأنه لا ينشر كثيرا، ولأنه غاب عنا طويلا في الواقع، فقد بدا لنا وقد تغيّر تغيرا جذريا. لم يعد ذلك الثوري الجامح في كل مقالاته وكتاباته، ولم تعد كلماته الصاخبة تكاد تتقافز من بين السطور استفزازا لرقابات التحرير في كل مكانٍ حاول النشر فيه. لقد تغير وتغير أسلوبه وتغيرت أفكاره من النقيض إلى النقيض، وأصبحت تلك الكلمات الثورية الصاخبة باردة، هادئة، مستكينةً ولا نكاد نعرفه من خلالها لولا اسمه المنشور أسفلها، وصورته المنشورة أعلاها.

أعمل في الصحافة الثقافية منذ ما يزيد على الثلاثين عاما، وقد أتاح لي ذلك أن أتابع تجارب كتابية ونشرية كثيرة للكتاب منذ بداياتهم. أرصد التغيرات الحتمية غالبا التي يمرّون بها وتمرّ بهم، على الصعيدين الإبداعي والفكري أيضا، فأفرح أحيانا وأحزن أحيانا أخرى، ولكنني، في كل الأحوال، مؤمنة تماما بأن التغيير من سنن الكون في الحياة والكتابة أيضا، وأنني تغيّرت في نظر كل من يرصد ما كتبته طوال ثلاثة عقود. وربما لست في حاجة لمن يرصد تجربتي وما مرّت بها وبي من تغيرات، ما دمت أحتفظ بأرشيفي منذ بدأت النشر.

أشعر أحيانا برغبة عارمة في التخلص من هذا الأرشيف الضخم من المقالات والتحقيقات والاستطلاعات والتقارير والأخبار وغيرها من أنواع الكتابة الصحافية، التي كتبتها في عملي، ولكنني أتردّد في تنفيذ تلك الرغبة، لشعوري بأنني سأتخلص عندها من جزء مهم من ذاكرتي بكل ما تحتويه من أشياء أحبها وأخرى أتمنّى لو أنها لم تحدُث في حياتي.

قبل أيام، كنت أعيد ترتيب هذا الأرشيف الضخم، والذي توزّع ما بين الورقي والإلكتروني، فغرقت مع بدء المهمة بلجّة الذكريات. وبدلا من البدء بالترتيب بدأت بقراءة كل قصاصة تقع بين يدي، وأحاول أن أتذكّر ظروف كتابتي لها.

فشلت في تحديد مشاريعي تجاه تلك الكتابات التي بدا لي بعضها، وكأن أحدا آخر غيري قد كتبها، وبعضها الآخر قد كتب للتو. لكن ما استطعت رصده من مشاعر يشير إلى علاقة تربطني بالكلمات، حتى لو لم تعد تمثل أفكاري. كلمات خرجت مني، ولا بد أنها ساهمت بتكويني الراهن. وبالتالي، فلا يمكن أن أتخلى عنها أو أتبرّأ منها لمجرّد أنني لم أعد أفكر كما هو واضح فيها. الأفكار تتغير بسرعة لا نتوقعها، ونحن نفكر فيها أو ننتجها، وأسلوبنا في التعبير عن تلك الأفكار يتغير بدوره أيضا، وكذلك كلماتنا وتعبيراتنا، ولكن وحدها المبادئ التي تبقى إن كانت حقيقية وناتجة من إيمان حقيقي، وهذا هو المهم.

أعود إلى ذلك الكاتب الذي امتعضت زميلتي، وهي تكتشفه منقلبا على كل ما كان ينادي ويؤمن به من مبادئ ومن أفكار أيضا، لأجدني أقلّ امتعاضا منها، بل لعلي تقبلت، وإنْ على مضض، ذلك التغير الانقلابي في شخصيته. ليس لأنني تغيرت أنا بدوري نسبيا وحسب، ولكن أيضا لأنني اكتشفت أن مشاعري تجاه التغيرات التي تلمّ بالآخرين، مهما كان نوعها، مهدرةٌ بالمجان .. وعلينا، وقد بلغنا من السن عتيا، أن نوفرها لما تبقى إن كان قد تبقى شيء مهم!

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.