في غيابة الجُبّ
مرّ زمن طويل وبعيد ولم أعد أذكره، ذلك الزمن الذي لم نكن نملك فيه وسائل الاتصال الحديثة بتدرّج اكتشافها وتطوّرها. ربما كان الاكتشاف الأول يوم وصل الهاتف الأرضي الذي يُدار بقرص رُصّت حوله الأرقام إلى بيت عائلتي. وكان هناك جهاز مماثل في بيت الجدّة الذي يبعد حوالي كيلومتر عن بيتنا، وكانت أيضاً تلك الفكاهة، أنّ جدّتي، رحمها الله، لم تكن تُجيب على رنين الهاتف من دون أن تغطّي رأسها، خشية أن يكون هناك رجلٌ على الجانب الآخر.
وتطوّرت وسائل الاتصالات مع مرور الزّمن وتقدّم أعمارنا، حتى وصلنا إلى الهواتف الذكيّة التي بين أيدينا، وقرّبت بيننا وبين الأحبّة والأصدقاء، وحوّلت الغرباء إلى أصدقاء افتراضيين، إلى أن فقدنا نعمةً لم نقدّر قيمتها، حين عادت تلك الأجهزة الذكيّة لكي تتحوّل إلى أدواتٍ صمّاء غبيّة تشبه لعب الأطفال بين أيدينا، وحين انقطعت الاتصالات بكل أنواعها عن قطاع غزّة.
فجأة، وجدتُ نفسي وكأني أنزلق في غيابة جبٍّ عميق، أعمق مما قد يتخيّله خيال إنسان، هكذا أصبحت ومن معي مثل العميان، وحولنا كلّ مشاعر الخوف، وبداخلنا قلوبٌ تنتفض بأحاسيس لا نعبّر عنها إلا بالبكاء. تخيّل أنّك تتحوّل إلى إنسانٍ أعمى، وأنت لا تعرف ما الذي أصبح يدور حولك وكنت قبل ذلك تعرف، فالإنسان الذي يولد أعمى لا يمكن أن يتخيّل أيّ شيء حوله، ويعرف الأشخاص من أصواتهم، ويعرف المُجسّمات من وصف هؤلاء لها. أمّا حين تُصبح أعمى وقد كنت بصيراً فتلك كارثة، لأنك تعرف حجم المأساة، وأصبح عليك أن تُقدّر بُعدها أو قُربها، مُعتمداً على حاسّة سمعك وتخميناتك مع الأحياء حولك.
هكذا تكوّرتُ على نفسي بلا أي وسيلة اتصال بالعالم، بلا خيط إنقاذ أو طوق نجاة، وكنت أمدّ جسوراً واهية من أمل، وأحصل على قطرات حياةٍ من خلال الهاتف الذي تحوّل إلى كتلة صمّاء خرساء، مُلقى فوق وسادة مهترئة في بيت للإيواء.
قلت مراراً للجميع إنني لا أريد من هذا العالم سوى أن يكون أولادي حولي، وأن نبتسم معاً ونحن نلتقط أنفاسنا بعد رحلة شقاء، منذ صغرهم، ومنذ كنت في ريعان شبابي، ولا ندري ما الذي جعلنا هنا، نصارع في معركةٍ لا نعرف كيف دخلنا بها، ونحن مثقلون بمعاركنا الخاصة مع العادات والأعراف والقوانين الجائرة بحقّ النساء والأطفال ضحايا الزواج الفاشل.
أُسقط بيدي وأنا أتكوّر وأبكي وأنادي باسم ابني الغائب، لا أعرف شعوره بعد أن انقطع الاتصال بنا، وأيّ أفكار سوداء قد صارت إليه، ومنها قطعاً أنّه قد فقدنا، فوضعت يديّ على قلبي، وناديت باسمه، وأنا أطلب منه أن يضع يده على قلبه.
تولّدت لدي طريقة اتصال جديدة، وهي ليست من اختراع البشر، إنها من اختراع الأمّهات المكلومات، أن ينادين مهما بعدت المسافة، فنداء القلوب حتماً يصل.
مرّ الوقت ثقيلاً وبطيئاً مثل خُطى سلحفاة عجوز، وفقدتُ رغبتي في الكلام، وأنا لا أعرف شيئاً عن العالم أكثر وأبعد من حدود هذا البيت الضّيق ومددتُ عنقي بيأس من نافذة ضيّقة، فسمعت شابّين يتندّران بأن علينا استخدام الحمام الزاجل، فضحكت وقلت لنفسي إنّهما يعتقدان أن الأمر هيّن. وهنا أدركت حقيقة أن العودة بالزمن إلى الوراء صعبة، وطريقٌ شاقّة. أمّا محاولة التقدّم مهما كانت بطيئة فهي تحمل نسباً واهية من النجاح تزداد تدريجياً.
عندما اخترعوا طريقة الاتصال بالنار وبالحمام الزاجل لم يكونوا يعرفون البريد الإلكتروني، ولا مواقع التواصل الاجتماعي، ولا حتى الهاتف الأرضي؛ الذي حفظت جدّتي رقمه المكوّن من ثلاث خانات، رغم أنّها كانت أُمّيّة، ولكنها تعرف أن هذا الرقم حين تُلقّنه لرجلٍ في الجانب الآخر سوف يأتيها بعد صمت معدني رتيب بصوت ابنتها الحبيبة؛ لتنقذها من نوبة سُكّر موشكة أن تودي بحياتها.