في عيد ميلاد فيروز
يجب أن تعتذر للسيدة فيروز، إن كنتَ مِن البؤساء الذين صادفهم سؤالٌ في امتحانِ معلوماتٍ عامَّة، في واحدةٍ من تلك المسابقات التي تقيمها المدرسة الإعدادية، ضمن نشاطٍ ثقافيٍّ لا منهجي، حيث كان السؤال: مَن هي جارة القمر؟ فلا تعرف الجواب، وربما خمَّنتَ أنه كوكب الزهرة؛ لأنه مؤنث، وكذلك فأنت أكثر بؤسًا، ربما، لأنك قد وُلدت في بيتٍ لا يفتتح صباحاتِه بصوتها، إنما بنشرة الأخبار الصباحية الموجزة، والتي تختتم بالنشرة الجوية؛ لكي يحدِّد الأب عدد القِطَع التي على الصغار ارتداؤها، قبل خروجهم، بصحبته، إلى مدارسهم، ثم يتوجَّه هو إلى مدرسته القريبة.
أنت بائسٌ، إذن، يا صاح؛ لأنك اكتشفتَ صوت فيروز متأخِّرًا، ولأنك اكتشفتَ صوتها وحيدًا؛ فلم يهدِ لك حبيب إحدى أغنياتها. وحين مرَّت من شريط عمرك مسافةٌ ليست قصيرة، وأنت تجد نفسك أخيرًا في الكتابة والقراءة، ثم تجد روحك تحلِّق مع صوتها، وتعتمدها وصفةً سحرية، لمن يشكون الضجر الصباحي غير المبرَّر.
ولكنَّك يجب أن تكون ممتنًّا للمصادفة التي وضعت أغنياتها، وصوتها المترنِّم، على جدول صباحاتك، بل أصبح افتتاحية الدقائق الأولى، قبل أن يزدحم نهارُك. وهنا تكتشف أنك تسمعه، مع رائحة الحليب على النار، ولو قرّرتَ أن تلتفت إلى الوراء، فسوف يفور فوق الموقد، وستحتاج لجهد في تنظيفه، وأنت تكون بحاجةٍ لكي تلتفت؛ لأنك تخيَّلت أن قيثارةً قد هبطت من السماء، وباتت تعزف في فراغ مطبخك الضيِّق، ولكن الالتفات مثل حركة الصيَّاد المنتظر لعصفور، منذ زمن، سوف يكلِّفك غاليًا، وكلَّ مرَّة تقع في الحَيْرة نفسها، فيما تؤكِّد للجميع أنك من عُشَّاق أم كلثوم، وتهمس لنفسك "هذا ما وجدنا عليه آباءنا".
صوت أم كلثوم تسمعه على المقاهي، وفي ساعات العصاري بالذات، وحين يجنُّ الليل، وتهيج الشجون، وتتفشَّى الذكريات المحزنة، عن اللوعة والفراق، فلا تجد غير صوتها صدَّاحًا، بكل ما تشعر به، فيما الحبيب الخائن يلتهم شطيرةً ساخنةً، في مكانٍ ما من العالم، ويكفي أن أمَّ كلثوم قد قالت: "يا صباح الخير يا اللي معانا"، ثم تركتك لتعافر، وتجاهد في الحياة، حتى إذا ما اقترب المساء، فهي تتعهَّد بأن تُنسيك النوم، وتنجح في ذلك، بامتياز.
مع صوت أم كلثوم، تكتشف أن صوتها ربما كان مسيَّرًا لا مخيَّرًا. أما صوت فيروز فهو مخيَّر لهدف واحد. صوتٌ خالصٌ بلا أسباب، فلا تسأل لماذا غنَّت أغنيها الجديدة، أو أطلقت ألبومها الأخير؛ فلا مناسبة، سوى أن صوتها إنساني، فصوت فيروز يكشف لك سرًّا رهيبًا، أنه يعلمك كيف يعبُر الإنسان الأديانَ والمذاهب، والأجناس والأعراق، وأنه جامعٌ للأضداد، من الشرق والغرب. ولذلك صوتُها صالحٌ للاستخدام، كبداية، حتى لو كنتَ من الذين يستيقظون مع الظهيرة، وحتى لو أصبح برنامجكم اليومي مرتبكًا؛ بفعل كسلٍ غير مفهوم، أو ضجرٍ من روتين، فعليك أن تسمع صوتها. اتركه لكي يفعل مفعوله السحري في روحك، ستجد أن اللوز قد أزهر في روحك، ولن ينتهي مفعول صوتها بسرعة. تخيَّل ذلك، إنه ليس دواء، ولا سحرًا، ولكنه مفتاحٌ بنسخةٍ واحدةٍ لبداياتٍ مطلوبة وواجبة، وسط عفن هذا الزمن الرديء.
كما قلت، اكتشاف صوت فيروز، بالنسبة لي، كان متأخِّرًا، وصوت أم كلثوم كان سَيْرًا على نهج أبي الذي جمع كلَّ أسطواناتها، ثم قرَّر أن ينتهج منهجًا جديدًا في الحياة؛ فيبدأ يومه بأخبار السياسة التي "تسمُّ البدن"، وينهيه بطلبات البيت الروتينية، وآخرها "لا تنسى أن تغلق نافذة المطبخ؛ لكي لا تتسلَّل الفئران". ولكنك وحيد، وبقرار جريء، تتمرًّد على كلِّ شيء، وتكتشف صوتها، وتعلن أمام الأب الغالي أن صباحك لا يبدأ، إلا مع فنجان قهوتك وصوتها، فيرفع عويناته، ويهمهم بكلماتٍ غير مفهومة، ثم يومئ، متفهِّمًا أنك قد كبرت، وصرت حرًّا، وفي ذلك بعض الأسى لك، وله، لا جدال في ذلك.