في ضرورة خروج تونس من سردية الثورة

21 ديسمبر 2020
+ الخط -

بدأت تونس تحتفي بالذكرى العاشرة على ثورتها المجيدة، وما زال التاريخ الرسمي للثورة محل تنازع، فثمّة من ينادي بأن يكون يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول، فيما ينادي آخرون بالإبقاء على يوم 14 جانفي (يناير/ كانون الثاني)، وهو التاريخ المعتمد رسميا. وكان الرئيس قيس سعيد، في زيارته مدينة سيدي بوزيد، بعيد انتخابه السنة الفارطة، قد تعهد، أمام الجماهير التي استقبلته، بمناسبة الذكرى، أن يصدر أمرا رئاسيا يغدو بموجبه يوم احتراق محمد البوعزيزي الذكرى الرسمية للثورة، بل أضاف، في الخطاب نفسه، وسط ذهول الحاضرين، أن يوم هروب زين العابدين بن علي (14 جانفي) كان يوم الغدر بالثورة. لم يعد هذه السنة إلى سيدي بوزيد، على الرغم من وعده السابق أهلها أن يعود إليهم وقد تحققت مشاريع كثيرة لفائدة المدينة. اكتفى بإصدار اعتذار يفيد بأن أسبابا طارئة حالت دون ذلك.

كانت الثورة التونسية أولى ثورات الألفية الثالثة التي لعب فيها الشباب وتقنيات التواصل الاجتماعي دورا بالغا في التعبئة وإسقاط النظام

والأرجح أنه تجنّب أن يحرجه المواطنون، وحال مدينتهم تقهقر عمّا كانت عليه السنة الفارطة. وتعكس هذه الحادثة ما جرى خلال عقد تقريبا: وعود بالجملة تطلقها النخب في كل معركة انتخابية، ثم لا تستطيع إنجاز ولو حدّها الأدنى. فقدت فئات واسعة من التونسيين الثقة في هذه النخب، وملّت من هذه "الديمقراطية" التي لم يستفد منها إلا السياسيون حسب رأيهم، فالشعب العريض يحترق بلظى ارتفاع الأسعار والبطالة ونقصان الأمن،.. إلخ، فضلا عمّا فرضته الجائحة من حجْر صحي شامل شلّ البلاد، وحال دون تعافيها.
كانت الثورة التونسية أولى ثورات الألفية الثالثة التي لعب فيها الشباب وتقنيات التواصل الاجتماعي دورا بالغا في التعبئة وإسقاط النظام، فكانت قادحا محليا ودوليا مهما، انطلقت معه ثوراتٌ عربيةٌ أخرى، على غرار الليبية والمصرية واليمنية والسورية، من دون أن تُنسى انتفاضات شبابية شهدتها مدن غربية، على غرار"احتلوا وول ستريت"، ومظاهرات عرفتها مدن في بريطانيا وإسبانيا وغيرهما، للتعبير عن رفض الشباب وفئات واسعة من المحرومين السياسات النيو ليبيرالية المذلّة للكرامة.

فقدت فئات واسعة من التونسيين الثقة في النخب السياسية، وملّت من "الديمقراطية" التي لم يستفد منها إلا السياسيون حسب رأيهم

وتبرز قواسم مشتركة بين الثورات العربية، لعل أهمها طموحات الناس، وتحديدا الشباب والطبقات الوسطى، في الحرية والكرامة وإنهاء حالة الاستبداد التي تعود إلى عقودٍ بدأت في بعض البلدان مع دولة الاستقلال. لم تعد الأجيال الشبابية في مجتمعاتنا العربية التي لم تدرك في طفولتها مجد الاستقلال، ولا نير الاستعمار، ترضى بالعيش على سردية التحرّر الوطني، إنها تتطلع إلى الحرية والكرامة. تفتح شبكات التواصل الاجتماعي نوافذ على قيم ملحّة لم يعد من الممكن منع جاذبيتها، ومنها الحرية في معانيها المتعدّدة: حرّيات سياسية، حرّيات شخصية، حريات ثقافية .. إلخ، فضلا عن قيمة الكرامة في أبعادها المتعدّدة: كرامة الجسد، كرامة الذات البشرية، كرامة المواطنة.. إلخ. لذلك هبّت هذه الجموع إلى صفوف الثائرين. فشلت معظم تلك الثورات، وظلت الحالة التونسية استثناء. وهو استثناء لم يكن وليد عبقرية المكان، بل إلى جملة من العوامل، منها ما يتعلق بالتراث النضالي للنخب الحقوقية والعمومية، وما راكمته من مكاسب وقدرة على بناء التوافقات والتحالفات (المجتمع المدني، الظاهرة الحزبية، حتى ولو كانت صورية، الدستور.. إلخ). وأيضا طبيعة النخب التي صعدت إلى الحكم، وقدرتها على بناء صفقاتٍ تاريخيةٍ مع خصومها وإبداء مرونة لازمة للتفاوض، خصوصا في أثناء الأزمات .. إلخ. مع أهمية تفتت البنى التقليدية (القبيلة مثلا)، أو صلابتها، خصوصا في ظل مؤسسة عسكرية لها عقيدة متعفّفة عن التدخل في الشأن السياسي. ولا تنسى طبيعة الارتباطات الإقليمية والدولية بين النخب الحاكمة والحلفاء و"الخصوم". وعلى الرغم من كل ما يقال، استطاعت تونس، إلى حد كبير، أن تحفظ ثورتها، ولا تبيعها لخصومها، على الرغم من الظرف الاقتصادي الصعب والإغراءات التي قدّمت. وكان الرئيس الراحل، الباجي قائد السبسي، قد أفصح عن حجم الضغوط والإغراءات التي قدّمت له من أجل وأد التجربة.

فشلت معظم الثورات العربية، وظلت الحالة التونسية استثناء. وهو استثناء لم يكن وليد عبقرية المكان، بل يعود إلى جملة من العوامل

وعلينا ألا ننسى أن الأنظمة التي عادت الثورات العربية، وعملت على إجهاض التجربة التونسية، قد رسمت عدة استراتيجيات متحوّلة، لعل أهمها الضغط الاقتصادي من خلال سحب الاستثمارات ورفض المساعدات وغيرهما، التشويه الإعلامي من خلال آلة إعلامية رهيبة، ترذّل الثورة وتصوّرها كارثة ووبالا، تحريك بيادق سياسية تحرّض على الثورة وتتربّص بمن كان وراءها، وصناعة الحنين إلى الاستبداد. وأبرز مثال على ذلك التدخل العسكري السافر كان مجسّدا في مناهضة الثورة الليبية، من خلال تسليح خليفة حفتر والمرتزقة الذين تموّلهم قوى إقليمية أصبحت مكشوفة، "فاغنر" ومليشيات الجنجويد، هم الخنجر المغروس في خاصرة ثورة 17 فبراير.
تمرّ الذكرة العاشرة للثورة التونسية، وأخواتها من الثورات العربية لم تنهض من كبوتها. وفي كل الحالات، علينا ألا نغفل أن شيئا من البرودة يلفّ هذه الذكرى، خصوصا في ظل انقسام حاد وشرخٍ يهدّد وحدة الجماعة الوطنية. ولهذا كان علينا، نحن التونسيين، استغلال الذكرى للخروج من سردية الثورة ذاتها إلى سردية تعزيز البناء الديمقراطي في شقّيه، السياسي والاقتصادي، تحديدا. نحن بصدد استقبال جيلٍ لم يعش قمع بن علي، ولا انتصار الثورة، وهو غير معني بالتغنّي بها، بل يطالب فقط بقطف ثمارها رخاءً اقتصاديا ورفاها اجتماعيا وجودة في الخدمات، ذلك هو معنى الكرامة الحقيقي الذي نادت به الثورة. التنافي المضني بين الفرقاء السياسيين والخطاب الشعبوي، علاوة على استضعاف الدولة، عوامل قد تؤدّي إلى انحرافٍ خطير، لن تقدر تونس على الخروج منه، مهما كانت حكمة الحكماء آنذاك.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.