في سعادة المغاربة

02 أكتوبر 2021

(الشعيبية طلال)

+ الخط -

أدرج مؤشّر عالمي للسعادة، يستند إلى نتائج استطلاع غالوب الأميركي، المغرب في المركز الرابع عربيا، لسعادة شعبها للعام 2021، على الرغم من أن هذا العام لم ينته بعد. فيما تنشر الأمم المتحدة تقريرا سنويا تعدّه شبكة التنمية للحلول المستدامة، التابعة للمنظمة الدولية، يستند إلى معايير محدّدة، منها نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي، ومتوسّط العمر والحرية وإنفاق الدولة على مواطنيها، كما تشمل الدعم الاجتماعي وغياب الفساد في الحكومات أو الأعمال. وهذه المعايير المعتمدة على جانب من الموضوعية، وتُعنى بتلبية حاجات أساسية للأفراد وتوفير شبكات أمان، غير أنها تخلط، في نهاية الفحص والتحليل، بين الرفاه، العام والفردي، والسعادة التي يستشعرها الأفراد، وتنعكس على صورة مجتمع ما. ولذلك تتقدّم دائما دول شمال أوروبا ودول الخليج العربي على غيرها، هذا في الوقت الذي تنتشر فيه متاعب الصحة النفسية وحالات الانتحار في تلك الدول الأوروبية، بينما تبدو الحاجة إلى السفر في دول الخليج أساسية، ليس بسبب قسوة طقس الصيف فقط، إذ تتم تلبيتها بانتظام من أجل العيش وتذوّق أنماطه بعض الوقت في دول أخرى قد يُصنّف بعضها أقل سعادة.

من واقع المعايشة والتجربة لكاتب هذه الكلمات، وبعيدا عن أي تحليل أكاديمي أو مهني، تبدو المغرب من أكثر الدول العربية سعادة، والسعادة هنا (بل وكما هي دائما وفي كل مكان وآن) نسبية بطبيعة الحال، وتعتريها ارتداداتٌ نفسيةٌ سلبية، لكنها تحافظ، في المجمل، على مستواها العام بوصفها ظاهرة ملحوظة، يستشعرها المراقب والزائر بأكثر مما يُقِر بها الأفراد، إذ يتجه تفكير البشر، في الغالب الأعم، نحو ما ينقصهم، لا تجاه ما يحوزونه. وأول مظاهر السعادة البادية للعيان هو الشعور بالرضا العام والفردي. وعلاوة على مخالطة الناس من شرائح مختلفة، فإنه يكفي أن يعمد الزائر إلى المشي في الشوارع، أو حتى الجلوس في مقهى على شارع رئيسي، وملاحظة جموع السابلة، كي تستوقفه حالات الرضا العام التي يتم التعبير عنها بالابتسام والضحك، وبأصوات غير عالية تميل إلى الخفوت في الغالب. وذلك يشمل الإناث والذكور من سائر الأعمار، وإن كانت مخايل الابتسام والضحك تقل لدى المتقدّمين في السن، وتزيد بصورة ملحوظة لدى الأطفال، وتحافظ على مستواها المرتفع لدى متوسطي الأعمار. ويسير نحو الثلثين من الناس مع صديق أو زميل أو أحد أفراد العائلة. أما الثلث الباقي الذي يمشي منفردا، فان الحيوية تغلب على مظهر نصف عدد هؤلاء، بينما يرتسم التجهم أو الشرود على ملامح النصف الباقي. وفي سيرهم النشط في الشوارع نحو هدفٍ ما، فإن ما يلحظه الزائر هو التنوّع الهائل في الملابس والأزياء. لا وجود للملابس شبه الموحّدة للرجال والنساء بما تعكسه من نمطيةٍ ومن نسق جماعي، لا فردية فيه، فالرجال والنساء يرتدون ملابسهم التقليدية أو الملابس الأوروبية والحديثة عموما، أو خليطا من هذا وذاك مع مروحةٍ كبيرةٍ من الألوان البهيجة وما لا يُحصى من تسريحات الشعر، ومن الأحذية الخفيفة، ومن أغطية الرأس حين توجد، بأشكال مختلفة، بعيدة عن أي توحيد مسبق أو فوقي. وفي ذلك يتمظهر احترام الفردية والاحتكام إليها، وعدم توقف أحد عند ملابس أحد، باعتبار ذلك خصوصية تلزم بتجنّب الخوض أو الانشغال بها.

يجمع المغاربة بين الروح الجماعية، كما لدى شعوب آسيوية، والروح الفردية التي تتسم بها المجتمعات الأوروبية القائمة على حق التنوع واحترام كينونة الفرد

إلى الملابس والابتسام، يغيب التوتر عن تعاملات الناس وأحاديثهم في كل مكان، بمن فيهم موظفو المطارات وباعة تذاكر القطارات والعاملون في المرافق الخدمية. يكفي ألا يعجبك طعام في أي مطعم، فاخرا كان أو شعبيا، حتى يتم استبداله بوجبة أخرى بدون نقاش ومع الابتسام. ومع وجود مئات من الناس في مقاه ومطاعم متوسطة التصنيف تطلّ على البحر، فإنك قليلا ما تصطدم بصوت مرتفع حولك أو مظاهر ضعف التهذيب. ويحتفظ المغاربة بهدوئهم لدى الخوض في السياسة في المناقشات التي تدور بينهم، فمشكلة خسارة حزب العدالة والتنمية "تخصّ هذا الحزب وعليه تحمّلها والإفادة من دروسها"، وعودة "التجمع الوطني للأحرار" إلى قيادة السلطة التنفيذية لم تكن مستغربة، وآلة الحياة السياسية الداخلية تعمل بانضباط في جميع الظروف. ويرتضي المغاربة، في المجمل، بنظامهم السياسي، حتى مع الملاحظات النقدية عليه أحيانا، ليس بطريقة قدرية، ولكن لأنهم يؤمنون بالتغيير من داخل الآلية القائمة بكفاءة الأفراد الحزبيين أو المستقلين في المواقع المتقدمة، وبين القيادات المحلية (في نظام يعتمد اللامركزية)، ويتوجسون بشدّة من أي تغيير راديكالي، أيا كان مصدره.

وبينما يمتعض المغاربة من الحظر الذي طال العهد عليه، والذي يبدأ في التاسعة ليلا حتى السادسة صباحا، فإن أصحاب المحلات يتقيّدون به بصرامة، وبتقبّل من غير شكوى، على الرغم من خسائر كبيرة تُمنى بها القطاعات العاملة ليلا، علما أن الحظر لا يشمل التنقلات بين المدن في القطارات.

يغيب التوتر عن تعاملات الناس وأحاديثهم في كل مكان، بمن فيهم موظفو المطارات وباعة تذاكر القطارات والعاملون في المرافق الخدمية

بهذا، يجمع المغاربة بين الروح الجماعية، كما لدى شعوب آسيوية، مثل الهند والصين وتايلاند، والروح الفردية التي تتسم بها المجتمعات الأوروبية القائمة على حق التنوع واحترام كينونة الفرد. ولعل في ذلك أحد مصادر سعادة هذا الشعب الشقيق، الذي تشكو شرائح واسعة منه من الفقر والبطالة، غير أن القطاع الخاص مفرط في نشاطه وتوسّعه، وبما لا يحصى من شركات ومشاريع صغيرة ومتوسطة، تمتص البطالة والتوترات الاجتماعية. فيما يحافظ الوافدون من الريف إلى المدن على مظاهر التكافل بينهم، في بلد يجمع، بصورةٍ فريدةٍ بين مظاهر الحياة القديمة وأنماط الحياة الحديثة، بتعايش فريد سلس وطبيعي. بالمحافظة الفطرية على القديم والقبول به، والانفتاح، بثباتٍ وكفاءة، على كل ما هو جديد وعصري ومفيد، تحتفظ الشخصية المغربية بتوازنها الاجتماعي "والحضاري"، وتجد بعضا من اسباب السعادة الشخصية التي تبقى نسبية، لكنها أعلى بما لا يقاس من مثيلتها في الدول العربية، وبالذات المشرقية منها.

هذا إلى سبب تكويني آخر، يتمثل في عدم الفصل بين الجنسين في جميع مراحل التعليم، وبهيئاتٍ تعليمية من الجنسين، فتسير حياة المجتمع سيرا طبيعيا، لا محل فيه للريبة والجهل والتربّص بين الذكور والإناث، ولا تقديم فيها أو تأخير لجنسٍ على حساب آخر. هذا على الرغم من أن مبدعين مغاربة يشكون من ذكورية مجتمعهم، غير أنها ليست ملحوظة في أعين المراقب، إذ تتمتع المغربيات بقدر شائع وملحوظ من الاحترام والأمان، مقارنة بغيرهن من العربيات، مع الأخذ في الاعتبار أن القيم الإسلامية العامة والعريضة تؤطّر حياة المجتمع بصورة راسخة ومرنة وتوافقية، حتى أن الملاطفة الأكثر شيوعا على ألسنة الناس، بمن فيهم الشبّان هي " الله يحفظك .. رحم الله الوالدين".

لا تضع التقارير العالمية عن السعادة في الاعتبار مثل هذه الملاحظات والتقديرات الراصدة.. وهذا أحد أوجه النقص فيها.