في رمزية مجسّم فلسطين بمدينة تونسية

10 نوفمبر 2020

مجسّم فلسطين في مدينة مدنين التونسية (العربي الجديد)

+ الخط -

مرّ شهر أو يزيد على ارتفاع مجسّم فلسطين في سماء مدينة مدنين في الجنوب التونسي، في مطلع شهر أكتوبر/ تشرين الأول المنقضي، وذلك تزامنا مع حلول الذكرى الخامسة والثلاثين للاعتداء الصهيوني على حمام شط في ضاحية تونس الجنوبية، أين كان يوجد مقر منظمة التحرير الفلسطينية، بعد نقله من بيروت سنة 1982.
المجسّم، على بساطته، تسكنه معاني عدّة، أبرزها حضور فلسطين الدائم في الثقافة الشعبية ولدى النخب المحلية التونسية، في زمن بدت فيه القضية الفلسطينية في حالة أفول وتراجع، مقابل توسع صهيوني على الأصعدة والاتجاهات كافة، واختراق مجالات ودول وشعوب في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية كانت، إلى وقت قريب، تنتمي إلى فسطاط فلسطين وحلفها الإنساني وقضيتها العادلة.
أنجزت المجسّم بلدية مدنين، وهندس الفكرة ورعاها، إلى أن تجلّت حقيقة تلامسها الأيدي وتمتع الناظرين المسكونين بالوفاء لفلسطين، المستشار البلدي الطبيب والكاتب، عبد الحكيم كرشيد، الذي لقي دعم ومساندة طيف واسع من المجتمعين، السياسي والمدني، بمشاربهما المختلفة والمتعدّدة، خصوصا الاتحاد العام التونسي للشغل، التنظيم النقابي العريق والرئيسي في تونس، والذي ظل نصيرا دائما للقضية الفلسطينية منذ تأسيسه، على يد زعيمه الشهيد فرحات حشاد سنة 1946.
يوقظ مجسّم فلسطين وعيا عميقا بجريمة احتلال الأرض وتشريد شعب وتهجيره وقتل أطفاله وإذلال شيوخه وهدم منازله ومحاولة تصفيته وانتهاك أقدس مقدسات العرب، مسلمين ومسيحيين، في بيت المقدس أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وفي بيت لحم مهد السيد المسيح عليه السلام ومقرّ كنيسة القيامة. ويذكّر التونسيين المارّين حذو المجسم بنضال أسلافهم وأجدادهم وتطوعهم للقتال في كل الحروب العربية الصهيونية في صفوف جيوش بلدان الطوق العربي في مصر والأردن وسورية ولبنان، وفي تنظيمات الثورة والمقاومة الفلسطينية، بمختلف توجهاتها القومية العربية والوطنية والإسلامية واليسارية. ويطرح تساؤلاتٍ جدّية لدى العابرين الأجانب عن علاقة التونسيين بفلسطين، وخريطتها المجسّمة في أعالي ساحاتها وطرقاتها ومسالكها، المنحوتة في ذاكرة أجيالها التي ترى فيها قطعة من تلك الذاكرة لا تمحي أبدا، مهما كان حجم المؤامرة، ومهما بلغت درجة النسيان، ومكوّنا من مكونات الشخصية الوطنية التونسية، ودرسا من الدروس التي يتعلمها طلاب المدارس، بالتوازي مع تعلمهم الخطّ والحرف والكلمة، ونشيدا يتغنّى به الأطفال في الفصول والساحات.

المجسّم، على بساطته، تسكنه معاني عدّة، أبرزها حضور فلسطين الدائم في الثقافة الشعبية ولدى النخب المحلية التونسية

وقد دوّن مؤرخون تونسيون وفلاسفة وسوسيولوجيون مؤلفات ضخمة، وأعمالا جليلة تروي مختلف مراحل انخراط تونس، ومثقفيها وعلمائها وأحزابها ونقاباتها وطبقاتها الشعبية وحكوماتها المتعاقبة، في دعم فلسطين، والانتصار لقضيتها والقتال في صفوف تنظيماتها المقاومة والتبرع بالمال والدم والتطوع بالنفس والدفاع عنها في المنابر العالمية والمؤسسات الإقليمية والدولية الحكومية وغير الحكومية، حتى باتت الكتابة عن فلسطين والمنافحة عنها تقليدا لدى الأكاديميين والسياسيين وبعض الدبلوماسيين التونسيين، على غرار الدور الذي لعبه مندوب جامعة الدول العربية في باريس سابقا، حمادي الصيد. وعلى غرار مؤلّف عبد اللطيف الحناشي "تطور الخطاب السياسي في تونس إزاء القضية الفلسطينية 1920 - 1955"، وكتابي علي المحجوبي "جذور الاستعمار الصهيوني بفلسطين" والهادي التيمومي "النشاط الصهيوني بتونس 1897 - 1948". ومؤلف صاحب هذه المقالة "الهوية.. الإسلام العروبة التونسة" الذي فُصّل فيه القول في القضية الفلسطينية لدى النخب والأحزاب السياسية والحركتين النقابية والطلاب التونسية. وسالم بويحي في دراسته عن العلاقة بين عمّال تونس وفلسطين ومواقف الطبقة العاملة التونسية من القضية الفلسطينية 1945 - 1956.
وفلسطين جزء من برامج الأحزاب السياسية التونسية، وعناوين أعمدة قارّة في الصحف اليومية والأسبوعية، وندوات دائمة في مراكز البحوث والدراسات، واسم لجمعيات وصفحات ومدونات عديدة، وهي مصدر للشرعية التاريخية والنضالية والشعبية، وانخراط دائم في العداء للصهيونية، ورفض لقيام دولتها على أرض فلسطين التاريخية وفي قطاع غزة والضفة الغربية. ولرفع مجسم فلسطين في المدينة التونسية الجنوبية مبرّرات تاريخية كثيرة، إذ تكاد تحتفظ كل عائلةٍ من ولاية مدنين المتاخمة لليبيا بذكرى عميقة الأثر عن كبار سنّها الذين تطوعوا دفاعا عن فلسطين سنة 1948 مشيا على الأقدام، مجتازين الأراضي الطرابلسية كما كانت تسمى في الأدب الكولونيالي الفرنسي، مرورا بمصر، وصولا إلى مدينة القدس التي اعتاد تونسيون ومغاربة كثيرون على زيارتها قبل الاحتلال في أثناء أداء فريضة الحج، ولهم باب في أسوارها وآخر في المسجد الأقصى يسمى باب المغاربة.

فلسطين جزء من برامج الأحزاب السياسية التونسية، وعناوين أعمدة قارّة في الصحف اليومية والأسبوعية، وندوات دائمة في مراكز البحوث والدراسات

وفي مدينة مدنين وتخومها، وتحديدا بلدة سيدي مخلوف، يرقد ميلود ناجح نومة الذي قاد عملية قبية الفدائية في شمال فلسطين المحتلة التي نظمها تنظيم الجبهة الشعبية القيادة العامة بواسطة طائرات شراعية، وقتل مجموعة من العسكريين الصهاينة يوم 25 نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1987، قبل أن يرتقي شهيدا. وكانت تلك العملية بمثابة ردّ للاعتبار للقضية الفلسطينية، كما جاء في رسالة نومة نفسه التي كتبها قبل تنفيذ العملية، وهي علاوة على ذلك انتقام لشهداء فلسطين وتونس الذين بلغ عددهم 68 سقطوا فيما تسميه الدولة الصهيونية وجهاز استخباراتها الموساد "عملية الساق الخشبية" التي نفذتها ثماني طائرات من سلاح الجو الصهيوني صباح الأول من أكتوبر/تشرين الأول سنة 1985 في مدينة حمّام الشط. كما كانت العملية منطلقا للانتفاضة الفلسطينية الأولى، المعروفة بانتفاضة الحجارة التي انفجرت شرارتها يوم 8 ديسمبر/كانون الأول 1987، أي أسبوعين بعد تنفيذ عملية قبية المسلحة، واستمرت إلى يوم 13 ديسمبر 1993، وسقط فيها 1300 شهيد فلسطيني. وكانت إدارتها تتم من تونس، باعتبار أن مهندسها والمشرف على تنظيمها في منظمة التحرير هو القائد الفلسطيني، خليل الوزير (أبو جهاد) الذي اغتاله كوماندوس مكون من مختلف الفرق والأجهزة الأمنية والعسكرية الصهيونية في بيته في سيدي بوسعيد في ضاحية تونس الشمالية، يوم 16 إبريل/نيسان 1988، في عملية نوعية، تمت تحت حماية أسطول بحري كبير، بحسب اعتراف التقرير الذي بثته القناة 13 الصهيونية قبل سنة. واعتبرت الحكومة الصهيونية عناصر الكوماندوس الذي نفذ العملية "أبطالا قوميين". ولم تتوقف سياسة الاغتيالات الصهيونية سنة 1988 باغتيال خليل الوزير، وإنما استؤنفت باغتيال المهندس التونسي محمد الزواري يوم 15 ديسمبر/كانون الأول 2016 أمام بيته في مدينة صفاقس من جهاز الموساد الصهيوني، من دون التفريق بين تونسي وفلسطيني، ليختلط الدم مرة أخرى، كما اختلط في حمام الشط سنة 1985، وفي عملية قبية سنة 1987، فالسلطات الصهيونية كانت قد تبادلت مع المقاومة اللبنانية رفات تونسيين استشهدوا على أرض فلسطين، منهم ميلود ناجح نومة المذكور سلفا وعمران المقدمي وفيصل الحشائشي ورياض بن جماعة وبليغ اللجمي وكمال بدري وسامي الحاج علي.

في بلدة سيدي مخلوف، يرقد ميلود ناجح نومة الذي قاد عملية قبية الفدائية في شمال فلسطين

يعكس مجسّم خريطة فلسطين رمزية مكثفة بعرضه أسماء مدن فلسطين التاريخية وقراها وبلداتها التي تأبى النسيان في الذاكرة العربية، ناهيك عن ذاكرة الأجيال الفلسطينية ووعيها الجمعي، على الرغم من كل محاولات الطمس وتغيير الشواهد على الأرض التي تقوم بها سلطات الاحتلال الصهيوني. وهي، بالتوازي مع ذلك، صيحة قادمة من أعماق التاريخ، تواصل ما قام به الشيخ عبد العزيز الثعالبي في تنظيم مؤتمر القدس سنة 1931، بتكليف من المفتي المقدسي الشيخ أمين الحسيني، وتستنسخ جهد الشيخ محمد الفاضل بن عاشور الذي أسس سنة 1948 "لجنة الدفاع عن فلسطين العربية" و"فرع المؤتمر الإسلامي لفائدة القدس الشريف"، وتقطع مع ظاهرة التطبيع التي رفضها التونسيون إبّان حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي الذي فتح مكتب رعاية مصالح الجمهورية التونسية في تل أبيب سنة 1996، وسمح بمشاركة وزير الخارجية الصهيوني في قمة مجتمع المعلومات التي انتظمت في تونس سنة 2005، والتي تفشّت في الفترة الأخيرة لدى حكوماتٍ عربيةٍ تلهث وراء سراب الأمن الصهيوني الشامل، من دون أن يكون لهذه الظاهرة قدرة على اختراق النسيج الشعبي والمجتمعي في مختلف الدول العربية، إلا من نخب ظلت قابلة للبيع والشراء.