في ذمّ الديمقراطية ومديح الاستبداد

12 ديسمبر 2021
+ الخط -

جمع الرئيس الأميركي، جو بايدن، أكثر من مائة من قادة العالم في قمةٍ يوم الخميس الماضي، ووجه نداءً لتعزيز الديمقراطيات في جميع أنحاء العالم، واصفا حماية الحقوق والحريات في مواجهة الاستبداد المتزايد بأنه "التحدّي الحاسم" للعصر الحالي... والمفارقة أنّ أهم مؤسسة دولية لقياس الديمقراطية في العالم، وهي المعهد الدولي للديمقراطية والمساعدة الانتخابية (مقره في استوكهولم) وضع، قبل أيام، الولايات المتحدة، لأول مرة، في القائمة السنوية للديمقراطيات "المتراجعة"، وانتقلت إليها من خانة الديمقراطية الراسخة، مشيرة إلى "تدهور واضح" بدأ منذ العام 2019. وأكثر من ربع سكان المعمورة يعيشون في ديمقراطية متراجعة، أما إذا حسبنا الشعوب التي تعيش تحت وطأة الديكتاتوريات الهمجية والأنظمة الاستبدادية أو "الهجينة"، فستكون النسبة أكبر من ثلثي عدد سكان الكوكب، وفقًا لتقرير للمعهد عنوانه "الحالة العالمية للديمقراطية 2021". ولا يبني المعهد آراءه اعتباطاً أو بتسرّع، فهو أمضى خمسين عاماً يطوّر منهجه القائم على مؤشّرات الديمقراطية في حوالي 160 دولة. ويقسم المعهد دول العالم إلى ثلاث فئات: الديمقراطيات (الراسخة وتلك التي "تراجعت")، والحكومات الهجينة أو المختلطة، والأنظمة الاستبدادية.
.. لا تزال الولايات المتحدة، بالطبع، دولة ديمقراطية عالية الأداء، بل إنّها حسّنت من أدائها في مؤشّرات الإدارة المحايدة (الفساد مثلاً والسبل المتوقعة لإنفاذ القانون) في عام 2020. لكنّ التخوّف يكمن في التراجع الكبير في الحريات المدنية وتقييد الرقابة على أداء الحكومة، الأمر الذي يشير إلى مشكلات خطيرة في أسس الديمقراطية. ونقطة التمفصل الكبرى جرت في خريف 2000، واستمر تأثيرها يتصاعد على مدى العام الحالي، عندما شكّك الرئيس السابق، دونالد ترامب، في شرعية نتائج انتخابات 2020 في الولايات المتحدة. على أنّ ذلك لم يكن أمراً منفرداً، بل جاء متضافراً مع التراجع الكبير في حرية تكوين الجمعيات وحرية التجمّع والتظاهر التي تبدّت خلال احتجاجات صيف 2020، بعد مقتل جورج فلويد على يد ضبّاط شرطة، وأيضاً في تقييد الوصول إلى صناديق الاقتراع والتراجع في حرية المرأة الأميركية.

يعتقد جمهور ترامب المتعصّب له أنه هو من فاز بالانتخابات، وأنّ بايدن سرق النتيجة منه، بل يعتقد بعضهم أنّ ترامب ما زال الرئيس الحالي للولايات المتحدة

يتجلّى تراجع الديمقراطية الأميركية في استمرار رفض الرئيس السابق، دونالد ترامب، نتائج انتخابات العام الماضي، وعدم الاعتراف بشرعية الرئيس الحالي، جون بايدن، معتبراً أنّ النتائج تمّ التلاعب بها، على الرغم من فشله وفشل فريقه القانوني في إثبات أيّ تزوير في الانتخابات، فقد خسر ترامب 61 دعوى رفعها في المحاكم لإلغاء نتائج الانتخابات أمام قضاة عيّن كثيرين منهم هو نفسه.
مع ذلك، ليست المشكلة عند ترامب أو في فريقه فحسب، بل في جمهوره المتعصّب له، والذي يمكن تقديره ببساطة بنحو 30% من الأميركيين. يعتقد جميع هؤلاء أن ترامب هو من فاز بالانتخابات، وأنّ بايدن سرق النتيجة منه، بل يعتقد بعضهم أنّ ترامب ما زال الرئيس الحالي للولايات المتحدة، وينتظر آخرون عودة جون كينيدي الابن، الذي قضى في حادثة طيارة في 1999، من بين الأموات، ليدعم الرئيس ترامب، ويكون نائباً له في الانتخابات المقبلة.
والمشكلة أيضاً في طبقة جديدة من سياسيين عديمي الثقافة، ركبوا موجة التطرّف اليميني، ومضوا في هذا الاتجاه أبعد من ترامب نفسه، فغدوا بذلك ملكيين أكثر من الملك. أشهر هؤلاء النائبة مارجوري تيلر غرين، التي لا تفوّت فرصة من دون أن تثبت محدودية أفقها السياسي وضحالة ثقافتها. وهنالك النائبة لورين بوبرت التي لا تخفي كراهيتها المسلمين، وقد اتهمت النائبةَ المسلمةَ في الكونغرس إلهان عمر بأنّها إرهابية يمكن أن تفجّر نفسها في الكابيتول هيل. ثم بول غوسار الذي أنتج فيلم رسومٍ متحرّكة يصور فيه نفسه يطلق النار على النائبة الديمقراطية ألكسندريا أوكاسيو كورتيز. ومنهم النائب توماس ميسي الذي صوّر نفسه وعائلته وهم يحملون أسلحة ويحتفلون بعيد الميلاد المجيد... هذه الطبقة الجديدة من السياسيين هي التي شجعت أتباع الرئيس ترامب العنصريين والمؤيدين للفاشية على اقتحام مبنى الكونغرس في 6 يناير/ كانون الثاني الماضي، في أسوأ حادثة تهزّ الولايات المتحدة منذ "11 سبتمبر" في العام 2001، وستلطّخ وجه الولايات المتحدة عقوداً.

التدهور الواضح للديمقراطية في الولايات المتحدة أحدُ أكثر التطوّرات إثارةً للقلق، لأنّها قائدة العالم الديمقراطي

لكنّ ذلك ليس كلّ شيء، فهنالك 19 ولاية أقرّت قوانين انتخابية تسير في ركاب الجمهوريين، وتحدّ من مقدرة الديمقراطيين والسود والملوّنين على التصويت. وسيسهم ذلك بشكل شبه أكيد في تحديد الرئيس المقبل للولايات المتحدة، وكذلك في تركيبة مجلسي الكونغرس الذي سيكون في العام المقبل، على الأرجح، بأغلبية جمهورية واضحة. ويتحوّل القضاء، يوماً إثْر يوم، ليقع في حبائل السياسة ويفقد استقلاليته بوصفه سلطة ثالثة مستقلة، وبذلك ستنهار منظومة الضوابط والتوازن (checks and balances). لقد عين الرئيس السابق ترامب 226 قاضياً فيدرالياً في أربعة أعوام، أي تقريباً ضعفي ما عينه الرؤساء أوباما وبوش الابن وكلينتون في السنوات الأربع الأولى من حكمهم. وأخطر من هذا أنّه عيّن ثلاثة قضاة في المحكمة العليا، وهو أكبر عدد يعينه رئيس مفرد. ولا يكمن الخلل في العدد فحسب، بل في النوعية، فبينما عيّن الرئيس أوباما الديمقراطي قضاةً محافظين، وعيّن الرئيس بوش الابن الجمهوري قضاةً ليبراليين (خلافاً لانتمائهما الحزبي)، فإنّ القضاة الذين عينهم ترامب، في غالبيتهم الساحقة، شديدو المحافظة ومغرقون في العداء للتعدّدية الثقافية وحرية النساء.
ومشكلة تراجع الديمقراطية في الولايات المتحدة ليست محلية أو قومية، بل إنّ التدهور الواضح للديمقراطية في الولايات المتحدة أحدُ أكثر التطوّرات إثارةً للقلق، لأنّها قائدة العالم الديمقراطي، وأيّ هزّة فيها تؤثّر على العالم بمجمله. ومعروفٌ أنّ الولايات المتحدة تصدّر السينما والتكنولوجيا والعقائد السياسية. وأزعم أنّ لوثة التطرّف اليميني في أوروبا ما كانت لتقوى إلى الدرجة التي عليها اليوم لولا وجود ترامب في البيت الأبيض، وأنّ جائحة رفض تلقّي التطعيم ضدّ وباء كوفيد - 19، وانتشار نظريات المؤامرة ما كان لها أن تتعاظم في العالم، لولا اندلاعها أولاً بين اليمينيين من أنصار ترامب في أميركا. ولذلك، سيكون للتحدّيات غير المسبوقة للعملية الديمقراطية في الولايات المتحدة تأثير مباشر وغير مباشر في جميع العالم، وجميعنا يرى كيف أنّ موضة رفض نتائج الانتخابات قد امتدّت إلى دول أخرى، من بينها ميانمار وبيرو وإسرائيل، وأنّ رفض اللقاح ضدّ كوفيد - 19 يسرح ويمرح في كلّ المعمورة.

يضمّ العالم 98 دولة ديمقراطية، وفق تصنيف المعهد الدولي للديمقراطية والمساعدة الانتخابية، وهو الأقل عدداً منذ سنوات عديدة

لقد تضاعف عدد الديمقراطيات المتراجعة في العقد الماضي، وهو يمثل حالياً ربع سكان العالم. وبالإضافة إلى الولايات المتحدة، تشمل القائمة دولاً أعضاء في الاتحاد الأوروبي، كالمجر وبولندا وسلوفينيا. وانتقلت مالي وصربيا من قائمة الديمقراطيات المتراجعة، لأنّهما لم تعودا في عداد الديمقراطيات، بينما انتقلت ميانمار من نظام ديمقراطي إلى نظام استبدادي. وللعام الخامس على التوالي، فاق عدد البلدان التي تتجه نحو الاستبداد تلك التي تتمتع بالديمقراطية. لكنّ بعض الأخبار الطيبة لا تزال موجودة، فقد تمت إزالة دولتين كانتا على القائمة العام الماضي، أوكرانيا ومقدونيا الشمالية، هذا العام، بعد تحسّن حال الديمقراطية فيهما. واليوم، يضمّ العالم 98 دولة ديمقراطية، وفق تصنيف المعهد الدولي للديمقراطية والمساعدة الانتخابية، وهو الأقل عدداً منذ سنوات عديدة، بالإضافة إلى 20 حكومة "هجينة" بما في ذلك روسيا والمغرب وتركيا، و47 نظاماً استبدادياً بما في ذلك الصين وسورية والسعودية وإثيوبيا وإيران. ولئن كان في تلك الأرقام رسالة إلينا، فهي أنّ هناك شيئاً خطيراً بشكل أساسي يحدُث مع نوعية الديمقراطية.
لكنّها ليست دعوة إلى اليأس، فقد شهدنا، على الرغم من كلّ شيء، مستويات متزايدة من المشاركة الانتخابية في الولايات المتحدة، لا سيما في انتخابات العام الماضي "وشهدنا زيادة بنسبة 7 % في إقبال الناخبين، وهو ما يمثل أعلى نسبة مشاركة في أي انتخابات اتحادية في الولايات المتحدة منذ 1980 على الأقل، وهذا تطوّر إيجابي للغاية. كما ارتفع عدد النساء في الكونغرس أكثر من أي وقت مضى، وشهدنا زيادة بنسبة 50% في تمثيل المرأة مقارنة بعقد مضى، وهي أعلى نسبة في تاريخ الولايات المتحدة الآن حيث 27% من أعضاء الكونغرس من النساء، وإن لم تكن نسبة مشرّفة، مقارنة بعديد من البلدان الأخرى".
ويبقى الفيصل في سلوك الأميركيين وهمّتهم وإقدامهم على التصويت، على الرغم من كلّ الصعوبات والعوائق، أنّ هنالك مقولة أنّ الديمقراطية تُصلح نفسها، ولسوف ننتظر ونرى إن كانت هذه المقولة صائبة. والاختبار الأول سيكون في الانتخابات النصفية في الخريف المقبل. فلننتظرْ ونرَ.

8B0BB846-CF42-461B-9863-1B914FC64782
8B0BB846-CF42-461B-9863-1B914FC64782
وائل السواح

باحث سوري في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. عضو في المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين ورئيس تحرير موقع "سيريان أبزرفر" ومسؤول تحرير في موقع الأوان.

وائل السواح