في ذكرى رحيل مجدّد "مقاصد الشريعة"
"الحجْر على الرأي يكون منذراً بسوء مصير الأمة ودليلاً على أنها قد أوجست في نفسها خيفة من خلاف المخالفين وجدل المجادلين"، محمد الطاهر بن عاشور.
صادف يوم أمس، 12 آب/ أغسطس، ذكرى مرور نصف قرن على رحيل محمد الطاهر بن عاشور (1879- 1973)، العلامة التونسي الزيتوني الشهير، والذي يعدّ أهم أعلام تونس في القرن العشرين بلا منازع، فهو الأبرز حضورًا في العالم الإسلامي، ويعود ذلك إلى تميّزه وما تركه من آثار علمية كانت موضوع درس أكاديمي مشرقًا ومغربًا، فقد تميّز معرفيًا في عدّة حقول من العلوم الإسلامية، أحيت بها مصنّفاته الدرس النقدي في مقارباتها، أهمها التفسير واللغة والعربية، فقد كان تفسيرُه "التحرير والتنوير"، كما هو عنوانه، مراجعات في التفاسير وإضافات عليها، اعتنى فيه تحديدًا بالجانبين، البلاغي واللغوي، لكل آية في القرآن الكريم، أمضى في تأليفه نحو 40 سنة، وأصله جملة دروس ألقاها على طلابه في الجامع الأعظم، نشر بعضها في المجلة الزيتونية، وطبع كاملاً ابتداء من 1968 في تونس، واستحقّ أن يكون أهم التفاسير في القرن العشرين، وأكثرها درسا وتحليلًا، ويمكن عدّه آخر حلقة في التفاسير التقليدية المرجعية التي تعتمد علوم الآلة في التصنيف العلمي. ولا يخلو، في الوقت نفسه، من نزعة نقدية ووعي بأسئلة العصر ومحاولة أقلمتها والإجابة عليها من داخل نسق المعارف التفسيرية ما أمكن، كما أن تفسيرَه يعكس، في الآن نفسه، ما تميز به من تضلع بعلوم الشريعة التي صنف فيها، لا سيما "مقاصد الشريعة الإسلامية"، حيث أحيا الدرس المقاصدي من خلال عنايته بمقاصد الشريعة الكلية والجزئية، ومراجعة المقاصد نفسها. ويمكن عدّ الكتاب عنوان رؤية الطاهر بن عاشور الإصلاحية، التي تسعى إلى المواءمة بين الشريعة وقضايا العصر. وكان اقترح في كتابه إضافة مقصد الحرية إلى مقاصد الشريعة.
صدر الكتاب في تونس عام 1946، وطبع لاحقًا مرّات عدة، واعتنى به في طبعة عربية، وترجمه إلى الإنكليزية الأستاذ في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا محمد الطاهر الميساوي. كما صدرت عن رؤى ابن عاشور المقاصدية دراسات كثيرة. أما كتابه "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام" فأصله جملة مقالات نشرها تباعاً في مجلة هدى الإسلام القاهرية سنتي 1935 و1936، ثم طبعت في كتاب متداول، وهو مجلٍّ آخر لرؤيته الإصلاحية وانشغاله بقضايا عصره. أما كتابه "أليس الصبح بقريب" فتحكي قصته النبوغ المبكر لابن عاشور والاهتمام بإصلاح التعليم في تونس، فقد صنَّفه وعمرُه لم يتجاوز 25 سنة، حدّد فيه أسباب تخلف العلوم، مصنِّفًا كل علم على حدة، واعتبر أن إصلاح حال الأمة لا يكون إلا بإصلاح مناهج التعليم، ثم عمل على تطبيق رؤيته في الإصلاح عندما تولى التدريس في جامع الزيتونة وأشرف عليه، و كان كتابه في ذلك لم ينشر بعد، حيث لم يتمكّن من نشره إلا بعد 40 سنة من تأليفه بسبب الوسط المحافظ في التعليم الزيتوني آنذاك، فقد ألفه قبل سنة 1905 ونشره سنة 1967، وعلل ذلك بقوله: "لم أتمكّن من إبراز هاته الآراء التي كنت أمليتُها، ونشر الأوراق التي خشيت عليها عواصف الأهواء فطويتها". ويعدّ كتابه وثيقة تاريخية في فهم حركة الإصلاح والتجديد التي شهدها العالم الإسلامي منذ نهايات القرن التاسع عشر.
ابن عاشور سليل عائلة علمية من أصول أندلسية، وكان لها حضور سياسي واجتماعي استفاد منه في تكوينه العلمي المبكر
لم تكن هذه الحقول الأربعة (التفسير واللغة، مقاصد الشريعة، أصول النظام الاجتماعي، إصلاح التعليم) التي تميّز شخصية ابن عاشور العلمية والإصلاحية إلا عناوين في سجلٍّ علميٍّ طويل من المصنّفات والرسائل المتخصّصة التي قاربت الأربعين، فضلًا عن عشرات المقالات العلمية التي نشرت في المجلات آنذاك، أبرزها المجلة الزيتونية في تونس ومجلة المنار في مصر. وكان أسّس مع صديقه محمد الخضر حسين (شيخ الأزهر) مجلة "السعادة العظمى" عام 1952، وقد تولّى جمع ما أمكن من مقالاته محمد الطاهر الميساوي، فكانت في نحو ألفي صفحة من أربعة مجلّدات.
شغل ابن عاشور مناصب كثيرة في القضاء والإفتاء والتعليم، وارتحل مشرقًا ومغربًا، وشارك في عدّة ملتقيات إسلامية، وانتُخب عضوًا مراسلاً لمجمع اللغة العربية بالقاهرة (1956)، والمجمع العلمي العربي بدمشق (1955)، و كانت بينه وبين روّاد الفكر الإصلاحي في عصره لقاءات وتواصل، فالتقى بالشيخ محمد عبده عند زيارته الثانية إلى تونس سنة 1903. وكانت له صلة بمحمد كرد علي، رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق، وكذلك الشيخ محمود شكري الآلوسي من كبار علماء العراق، والشيخ محمد بن الحسن بن العربي الحجوي الفلالي المغربي، والمصلحين الجزائريين عبد الحميد بن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي، وكانت بينه وبين الشيخ محمد الخصر حسين صداقة عميقة وشراكة علمية.
اعتزل ابن عاشور على خلفية مواقفه، وانزوى حتى توفي عن 94 سنة في 12 أغسطس 1973، لينساه حداثيو تونس وإعلاميوها
كان ابن عاشور سليل عائلة علمية من أصول أندلسية، وكان لها حضور سياسي واجتماعي استفاد منه في تكوينه العلمي المبكر. ولعله وأقرانه وتلاميذه من أواخر من انتهى بهم عهد التعليم التقليدي الرصين في تونس، حيث سيخلف تلك الطبقة الزيتونية علماء صادقيون (نسبة إلى المدرسة الصادقية التي درَّس فيها ابن عاشور نفسه) تلقّوا التعليم الحديث إلى جانب التعليم التقليدي، قبل أن يسيطر التعليم الحديث على كل شيء. وينتهي نسل ابن عاشور العلمي إلى نخبة علمانية حداثية لا تكاد تعترف بمكانة إرثه العلمي، وحتى التعليم الزيتوني نفسه، الذي حاول ابن عاشور إنقاذه من خلال رؤيته الإصلاحية، قد ألغي باسم إصلاحه وتحويله إلى تعليم جامعي.
الأهم في إحياء ذكرى رحيل ابن عاشور ليس التذكير بشخصٍ منسي، فهو حاضر بقوة في جميع المجالات التي اعتنى بها وعلى مستوى العالم الإسلامي. ويتجاوز تذكّره العرفان بالواجب نحوه، إنما تأتي الأهمية باستحضار شخصيته من حيث ما تميّز به، فقد كان نموذج العالم المصلح المجدّد، كان ابن عصره، مشغولًا بأسئلته وقضاياه، خاض معارك فكرية وسياسية وامتحن فيها، ولم يكن يحول بينه وبين طرح رؤاه هول المقلّدين من شيوخ عصره، أو ضغط السياسيين، أو دعاة الفكر الحديث، إنما كان منضبط المنهج والرؤية في اختياراته العلمية، ولم يكن ممن يلفّق الإجابات أو يرتجلها لكل سؤال، إنما كان يستشكل المسائل ويعمق النظر فيها، ويبتكر المداخل المناسبة للإجابة عليها.
اعتزل ابن عاشور على خلفية مواقفه، وانزوى حتى توفي عن 94 سنة في 12 أغسطس/ آب 1973، لينساه حداثيو تونس وإعلاميوها قبل أن يؤم قبره السفير الإندونيسي ويعتني به فور مباشرة عمله في تونس (2022)، والذي حدَّث الإعلاميين لاحقًا عن مكانة ابن عاشور في إندونيسيا، ومكانته في العالم الإسلامي لدى جميع الاتجاهات الفكرية والمذهبية لا تخفى على مطلع. وكثيرون (بمن فيهم بعض إعلاميي تونس) يخلطون بين الشيخ محمد الطاهر بن عاشور موضوع المقال وابنه محمد الفاضل بن عاشور، وهو الآخر عالم لكنه ليس بمكانة والده، وتوفي قبل والده بعامين.