في ذكرى انقلاب 1958 المأساوي
أثار الحفل الأنيق والبسيط لزواج ولي عهد الأردن الحسين بن عبد الله تعليقات عراقية عديدة، يتعلق بعضها بالضيوف من الشخصيات العراقية، وأخرى لها علاقة بتأويل سبب حضور شخصيات ما أو غيابها عن الحفل. ولكن أكثر هذه التعليقات العراقية كانت تستدعي صوراً عن المَلكية العراقية الغابرة، وتقارن ما بين حالي العراق والأردن وغيره من الدول العربية الملكية، ولعل بعضهم تذكّر، في صورة الأمير الحسين الشاب، ملامح الملك العراقي المغدور فيصل الثاني، فأفاض بالأسف والحزن على المنعطف المأساوي الذي دخل فيه العراق من يومها.
كانت بعض التعليقات سلبية وعدائية، فتساءل أحدهم: "لماذا يكون لهذا الشاب (ولي العهد الأردني) الحقّ في أن يتحكّم في حياتي، على الرغم من أنه بعمر مقارب لعمري؟!"، ويقصد ربما أن الديمقراطية المباشرة هي الأحقّ في تنصيب الحكّام. أو ربما كان السبب المضمر مجرّد حسد وغيرة لا أكثر. وفي كلّ الأحوال، يمكننا أن نتخيّل حججاً مشابهة، كانت بين أوساط الشباب العراقي المتحمّس، بسبب دعايات التيارات السياسية في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، بالإضافة إلى سرديات تأصيلية كانت تثلم من عراقية العائلة المالكة، لأنها جاءت من الحجاز قبل ثلاثة عقود لا أكثر، وأن أفرادها "ليسوا عراقيين أصلاء" في تجاهلٍ تام لحقيقة أن نسبة كبيرة من سكّان العراق نزحوا من شمال الجزيرة العربية خلال القرون الثلاثة الأخيرة.
أسقط الضبّاط (تخرّجوا من الكلية العسكرية على نفقة الدولة الملكية)، حكم العائلة الهاشمية في العراق، وهلّل الشباب المتأثر بالدعايات اليسارية والقومية لهذا الانقلاب، وبرّر بعض الباحثين مشروعية تسمية الحدث بـ"الثورة"، لأن الشعب أيّد الانقلاب، فتحوّل الانقلاب ثورة. ومن الطريف أن فلسطين وهزيمة الـ1948 ذُكرتا في البيان الذي تلاه الانقلابيون من الإذاعة، ثلاث مرّات، مبرّرا للانقلاب. أي أن محرّك العمل الذي قاموا به قضية خارجية، وليست مشكلات داخلية، أو أزمات تخصّ التنمية والاستثمار الأمثل للموارد، وخفض نسبة الفقر وما إلى ذلك، ثم أن هذا النظام القومي اليساري الذي ظلّ يواصل الانقلاب على نفسه كذا مرّة كان مساهماً في هزيمةٍ أفدح وأعظم وأكثر تأثيراً، تلك التي حدثت في 1967. حتى انقلاب 1968 البعثي وضع فلسطين سبباً للانقلاب على رفاقه المنقلبين! ولم يفعل المنقلبون من يومها أي شيء لفلسطين ولا هزموا إسرائيل، بل ربما كانوا السبب في الحال التي فيها فلسطين اليوم، فضلاً عن الحال المتردّي لبلدانهم وشعوبهم.
في العراق، للأسف، قراءة طائفية سارية ومؤثرة للأحداث السياسية في القرن العشرين، وهي متناقضة وغير متّسقة. ولهذا، يعفي الذي يمجّد في المرحلة الملكية أو يذمّها أو يمجّد العسكر الانقلابي أو يذمّه لأسباب طائفية نفسه من رؤية الحقائق، وبالتالي، فهم المآل والمنتهى الذي وصلنا إليه.
لا يمكن استعادة الملكية وإحياؤها اليوم، مهما ارتفعت النوستالجيا، فالظروف مختلفة والمعطيات متغيّرة. ولكن، من الجهة المقابلة، لا يمكننا أن نبرّر، تحت أي مسمّى، الفعل الانقلابي الذي حدث، ونجعله أخلاقياً. يمكننا أن "نتفهّم" الظروف التي أدّت إليه، ونتفهّم السقف المعرفي والإيديولوجي الذي كان يتحرّك تحته الأفراد في تلك المرحلة، ولكن الانقلاب ليس مبرّراً، وحججه واهية، ما هو سوى شهوة السلطة.
أما التنمية وخدمة المجتمع، فللأسف كانت القاطرة تتحرّك بكفاءة ونشاط في السنوات الخمس ما قبل انقلاب الـ1958، ليقصّ الانقلابيون شريط افتتاح مشاريع أكملها النظام الملكي، وليستمرّ في إنشاء مشاريع وضع خططها النظام الملكي. وظل الانقلابيون حتى عهد صدّام حسين ينفّذون مشاريع مستلّة من خطط مجلس الإعمار الملكي. فضلاً عن تلكّؤ هذه الأنظمة الانقلابية عن تنفيذ مشاريع عديدة أخرى في المخطّط الملكي. ومنها فندق الهيلتون في بغداد، توقّف مع الانقلاب، لأن الشركة المنفذة كانت أميركية "إمبريالية"، ومنحوا عقد التنفيذ لشركة سوفييتية لم تنشئه.
المسار الذي سارت عليه المَلكية العراقية كان ينبئ، للأسف، في النهاية التي انتهى إليها، فالملك المؤسّس لم يعمّر طويلاً ومات وهو صغير، ليموت الملك الثاني صغيراً أيضاً، ويبقى الملك الثالث طفلاً برعايةٍ من عرّابي العهد الملكي الكبار، الذين استخفّوا بالمخاطر الداخلية المحدقة، وتعاملوا باستعلاء مع المعارضين، ومع التيارات السياسية والفكرية الصاعدة في المنطقة والتي أكلت عقول الشباب. ويمكن أن نسرد قائمة طويلة من أخطاء النظام الملكي، و"جرائمه" إن رغب بعضهم، ولكن هذا لن يجعل حدث الانقلاب (نمرّ بذكراه الـ65 هذه الأيام) صحيحاً وأخلاقياً.